يا ثلجُ قدْ هيّجتَ أشْجاني ذكّرتني أهلي وأوطاني.
هذا ما جادَ به الشاعر العربيّ المهجريّ رشيد أيّوب في بلاد الغربة ،وبما أنّي حفظتُ بعض الأبيات من هذه القصيدة التي كانت ضمن كتابنا المدرسيّ في المرحلة الابتدائيّة من دراستنا ، فقد علقتْ بذاكرتي كلّ هذه السنين ،وكلّما جاءَ فصل الشّتاء ، واشتدّ البرد ، وبدون مقدمّات أشرعُ بإنشاد هذه الأبيات وأتحفُ أهل بيتي بسماعها والتّمتّع بالنّظم الشّعريّ الباهر لكلماتٍ شجيّة تلامس الوجدان وتلهب المشاعر بسيلٍ من العواطف الإنسانيّة الصّادقة لأنّها تذكّرنا بالأهل والأوطان وبتفاصيل عديدة مرّت في شتاءات سنين حياتنا لا سيما الأيّام المثلجة منها…
منذ نصف قرنٍ تقريباً من الزّمن تعرّفت على الثّلج أوّل مرّةٍ ،حيث كنتُ طفلاً ، وبعد حصارٍ في البيت دام لعدّة أيّام شتويّة باردة في قريتنا في ذلك العام ، سنحت لي فرصة الخروج إلى السّاحة الوحيدة في قريتنا بعد شروق الشّمس و أصبح الجوّ صحواً ،فوجدت أنّ معالم القرية كلّها والجبال المحيطة بها تكتسي ثوبها الأبيض النّاصع مزهوّة به ،وبدأت تتجمّع في السّاحة الأهالي للمشاركة في مناسبة ارتداء هذا الثّوب الأبيض الجديد لقريتنا وأراضينا وبدأت الأصوات الفرِحة تعلو والأحاديث المرحة يتمّ تبادلها بين الصّغار والكبار متمتّعين بأشعّة الشّمس الدّافئة في تلك الأيام الباردة.
وللثّلج قصصٌ متعددة تكاد تتكرّر مع كلّ واحد فينا ، سواء عاشها في الرّيف أو المدينة أو كليهما معاً ، وبالنسبة لي بعد هذه الذكرى بسنتين انتقلنا شأن العديد من الأسر السوريّة من الرّيف إلى المدينة في تلك الحقبة من الزّمن، ووجدت أنّ للثّلج بهجة كبيرة في المدينة تتجلّى في التّعبير عن هذه المناسبة الّتي قد تمرّ ربّما مرّة كلّ عدّة سنوات ، ويعبّر الناس عن فرحهم بالأيّام المثلجة بأشكال متعدّدة ،وهناك صور ثلجيّة ناصعة لا تنسى من الذاكرة …
ومرّةً جديدة تعرّفت على الثّلج ولكن هنا في المدينة حيث هطلت في ذلك الشّتاء البارد ثلوجٌ كثيفة وقتها على حمص ولم نذهب إلى المدرسة يومها ، وبدأنا بالتّجمع على زاوية شارع بيتنا أنا وأقراني وشرعنا بتقاذف كرات الثّلج فيما بيننا فرحين بهذا الضّيف الاستثنائي في شتائنا، وبالمنظر البديع للثّلج ،وبالغطاء الأبيض الّذي اكتست به أسطح بيوتنا وشوارعنا ،وبفكرة لافتة وغريبة من أحد الموجودين في هذه الصّحبة ،قرّرنا الذهاب لرؤية المدرسة حيث كان يفصلنا عنها مسافة بعيدة تقدرّ بمئات الأمتار، وأرض واسعة مغطّاة بالثّلج الأبيض الناصع ، وتخيّلنا أن ملعباً واسعاً أمامنا ، وبدأنا بالجري باتّجاه مستقيم نحو المدرسة على شكل رتل فرديّ منتظم فوق المرج الأبيض ،وفي مسارنا لم نكترث لوعورة الأرض ، ولم نهب المطبّات والحفر في طريقنا ولا جور المياه الّتي كنّا نغطس بها ،وعشنا ساعاتٍ من الزّمن بمنتهى السّعادة والسّرور ،حتّى عدنا إلى منازلنا بحالةٍ يرثى لها ،ولكن لم نفلت من عقاب الأهل رغم معاناتنا من ثيابنا المبلّلة ،ورجفة البرد ،والإرهاق الشّديد من لعبنا ومرحنا طيلة ذلك النّهار الأبيض الجميل…
وفي كلّ مراحل عمرنا ومهما قست علينا ظروف الحياة ،و مهما اغتربنا وفي أي أرضٍ حللنا،فإن الأيّام المثلجة في حياتنا أكثر من غيرها تبقى في الذّاكرة حاضرةً ناصعة ولا تمحى ،وهي تدفئنا في بردنا وتنير ظلمتنا حتّى أنّ أشجاناً عديدة تتهيّج بشغف وحنين لمعالم وأشخاص وذكريات حدثت في أيّام خلت وبعُدت ونتمنّى أن يعود بنا الزّمن مرّة أخرى لنعيشها من جديد كي ننال قبساً من نورها السّاطع في قلوبنا ،وتمدّنا بالقوّة والزاد الّذي نحتاجه في أيّامنا الصّعبة والمقفرة…
منذر سعده