لقد بذلت القصيدة بشكلها القديم جهداً ، في محاولة للاستمرار لكنها لم تستطع ، إلا من قبل قلة من المبدعين ، الذين لديهم طاقة شعرية فنية ..
أما الشعر الحديث فقد حاول البعض الوقوف في وجهه ، لكنه صمد أمام تلك المحاولات، وأخذ يملأ حياتنا الثقافية والفنية ..
وقد اختلفت الآراء فيه ووجهات النظر بين شعراء الحداثة أنفسهم وبين النقاد .
فموضوع « الحداثة الشعرية » يختلف من شاعر لآخر ، ومن ناقد لآخر ، وإن كان هناك بعض الملاحظات التي تتفق عليها الآراء. إن اختلاف الآراء عنصر أساسي في فتح آفاق جديدة أمام الشعر الحديث ..
فنزار قباني ذلك الشاعر الكبير الذي ملأ شعره الدنيا وأحبه الناس يرى الحداثة أنها خروج من جلودنا القديمة لنلبس العصر .. أن نكسر جدار الصوت صوتنا الخاص …أن نولد من رحم العصر ، ونكون أبناءه الشرعيين أن يشعر من نكتب لهم بالفعل ، لا أن نقدم لهم الثريد على طبق من الكريستوفل ..
الحداثة هي حداثة الموقف ، وحداثة الانفعال ، وحداثة اللغة ، ولا يكفي في الحداثة أن نستعيد تجربة شاعر أوروبي لنكون محدثين ولا يكفي أن نستعير موقف من العالم ومن المستقبل لنكون مستقبليين .. الحداثة المطلوبة هي حداثتنا نحن ، هي رحيلنا المستمر من حالة السكون إلى حالة الحركة ، ومن الهموم الضيقة إلى هموم العالم ..
ويقول نزار قباني أيضاً : إن انقلاب الشعر العربي ليس انقلاباً داخل اللغة ولا هو انقلاب على المضامين فحسب أي ليس عملاً شكلياً بحتاً ، بينما هو انقلاب في الجذور وفي الموقف من الأشياء والإنسان والعلم ، ولم تعد اللغة سوى وسيلة للتعبير عن هذا الموقف ، ولم تعد الصور الشعرية والرموز سوى أعواد كبريت يفجرها الشاعر ليضيء العالم..
أما خليل حاوي فيقول : إن الاتجاهات المختلفة في الشعر العربي الحديث تلتقي على قدر مشترك من مفهوم الحداثة في الشكل والمضمون أو ما يدعي الموقف من العالم وطريقة التعبير عنه ..
وأرى أني كنت بوعي أولاً وعي فني أحاول مع غيري من شعراء جيلي أن أسير بالشعر العربي من عصر إلى عصر وأحدث تجديداً يجعل شعرنا الحديث يتصل بالتراث العربي بقدر ما ينفصل عنه ..
غير أني لم أستمد من التراث إلا العناصر الحية التي تسعفني على التعبير عن واقع العصر الحديث .
أما فايز خضور فقد رفض مرتكزات القديم ،فيرى قبل كل شيء أن الشعر الجديد هو عملية خلق لاواعية اللحظة ..لا واعية الحضور ،وما دمنا في منطق الجديد ،فهذا يعني رفضنا المطلق لجميع مرتكزات القديم وهنا لابد من استثناء الموسيقا واللغة ..هاتان الظاهرتان اللتان لابد من وجودهما في وضعهما القديم ،مع تحميلهما الأبعاد النفسية الجديدة.
وإن التراث العربي مدهش في فن الشعر ،في حين يكاد يخلو من الأجناس الأدبية الأخرى تماماً ،ومن هنا تبرز صعوبة الاتفاق على مفهوم الحداثة ،هل هي بداية من نقطة الصفر ؟أم هي عملية تطوير لشيء موجود أصلاً ؟إذن هناك تخبط واضطراب في المواقف من الحداثة الشعرية ،حتى الآن ليصعب الإحالة بها أو التوغل في أعماق الظاهرة لاكتناه ما يشبه القانون الداخلي الذي يحكم تطورها منذ بدايتها وحتى أيامنا هذه ….
عفاف حلاس