تحية الصباح .. من الذّاكرة 97

في منتصف سبعينيات القرن الماضي، جرت أحداث في لبنان، ومنها طرابلس،  أدّت إلى نزوح بعض أبنائه، طلباً للنّجاة، وبعض هؤلاء النّازحين جاء إلى مدينة حمص، لقربها من جهة، ولعلاقات يأنس بها الهارب.

ذات يوم، وكان الفصل صيفاً حارّاً، وكنتُ أمين سرّ المكتب الفرعي لاتحاد الكتاب العرب بحمص، وقربَ حلول الظهيرة دخل مكتبي شاب متأنّق، يرتدي بزّة كحليّة، وربطة عنق يتناسب لونها مع لون بزّته، .. دخل وآثار العرق على وجهه، وسألني عنّي فقلت:” وصلت تفضّل”، فقال بلهجته الطرابلسيّة، بعد أن ذكر اسمه، “أنا يسمّونني في طرابلس بلبل الفيحاء، وعندي شعر عظيم، وقد أرسلني العقيد (…..) لأقيم أمسية شعريّة في اتّحادكم”، كلّ ما في هذا الرجل يُنبي عن أنّه شبه مهزوز، ولا شكّ أنّ الشعر يشبه صاحبه، هذا ما قلتُه بيني وبين نفسي، ولكي أتخلّص من هذه الورطة قلت له:” أهلا بك في سورية بلدكم الثاني، ولكنْ، سلّم لي على العقيد (…) وقل له إنّ الشعراء الكبار أمثالك يحتاج نشاطهم لموافقة المكتب التنفيذي في دمشق، فليُؤمنّْ موافقة لنا، وأهلا وسهلا”، وانتهى أمر هذا النشاط عند هذا الحدّ، غير أنّ بعض الأحداث تقول إنّها ترتّب نفسها بنفسها، فذات نشاط للأديب الكبير الراحل حسيب كيالي، وكنّا جالسين في مكتب رئيس الفرع، بانتظار بدء المحاضرة، وحسيب حيث يحلّ تحل الحركة والمرح، وصادف أن دخل صاحبنا” بلبل الفيحاء”، وبدأ بالسلام مصافحاً الجميع، وهو يقول بلهجته الطرابلسيّة :” فلان الفلاني ابن المفتي من طروبلس”- يعني (طرابلس)- وحين صافح حسيب كيالي وكرّر الجملة استوقفه حسيب، وظلّ ممسكاً بيده، وطلب منه أن يُعيد لأنّه لم يفهمه، وأمال صفحة وجهه موجّها أذنه للمتكلّم، فكرّر صاحبنا ما يقول، وقبل أن يبلع ريقه قال له حسيب بلهجة أهل إدلب:” حسيب كيالي ابن مفتي من (إدليب)_ يعني (ادلب)- وانفجر الحاضرون بضحك لم يستطيعوا مُداراته،

بهذه المناسبة لابدّ من القول أنّ لحسيب كيالي أسلوبه الخاص به، فقد أخذ من العاميّة كلّ فصيح ووظّفه بطريقة تشعرك بنبض الشارع الذي يتحدّث عنه، ولديه قدرة مدهشة على إثارة الضحك، عبر المفارقات التي يبسطها، حتى ليمكن القول إنّه ” جاحظ” عصره، ويتمتّع بسرعة بديهة فائقة، وقد حاول البعض تقليده في كتاباته فكان صدى باهتاً، وقد أثّر حسيب في جيل بكامله من أدباء إدلب، فحاولوا أن ينهجوا نهجه، فلم يُفلح في ذلك ايّ منهم، ولا أقلّل من قيمة مَن أثبت جدارته من أهل تلك المحافظة المُختَطَفة من العثمانيّين الأتراك الجدد،

بهذه المناسبة أيضا أنقل ما سمعتُه من المرحوم حسيب، فقد سُجن مع مَن سُجن من ” الشيوعيّين” أيام قيام الوحدة بين دمشق والقاهرة، وصادف أن كان جاره في السجن  شخص كردي اسمه ” حاجو”، كما أذكر، ومن عادة حسيب أنّه ينام في بيته ويلفّ بإحدى رجليه وسادة وينام، وفي الليل ظنّ نفسه أنّه في بيته، فلفّ رجله على جاره، وفي الصباح لاحظ أنّ جاره ” حاجو” يضبّ أغراضه لينتقل إلى مكان آخر، فاستوقفه حسيب وقال له ما معناه لماذا تنتقل؟ هل أسأت إليك؟! فقال حاجو محرَجاً بعربية مكسّرة :” حسيب، أنا دخلت السجن ، عيب أطلع منه ( بُشْت)، فاسترضاه حسيب وأقنعه بالبقاء جاراً له، وحين جاء دور “حاجو في التحقيق، سأل رفيقه وجاره:” أستاذ حسيب، أنا هلّق لمّا بيفوت عَ التحقيق إيشبيقول  تسقط الامبرياليّة، وإلا يسقط الظّلم”، ففتح حسيب عينيه دهشة وقال له :” الله يخرب بيتك ، شو يسقط وما يسقط ؟ ولَك من فوتَكْ ارفع أيديك وحطّها على راسك وصيح دخيلكن”

رحم الله حسيبا فقد كان أفقاً خاصاّ لايتكرّر، كما هو شأن المواهب الكبيرة….

عبد الكريم النّاعم

aaalnaem@gmail.com

 

المزيد...
آخر الأخبار