قمْ للمعلّم وفّه التبجيلا كاد المعلّم أن يكون رسولا…
تربّينا منذ جلوسنا على مقاعد الدراسة الأولى في طفولتنا على احترام المعلّم وتبجيله ، وغرس آباؤنا فينا حبّ العلم وحبّ وتقدير من يعلّمنا في كل المراحل التي ننهل العلم فيها ، وهذه الآداب في تربيتنا جعلت للمعلّم مكانة خاصّة في حياتنا ويُحسب حسابها في كلّ تفاصيل الدّراسة ومحطّات التّعليم الّتي مررنا فيها …
كان في قريتي مدرسة واحدة مؤلّفة من غرفة وحيدة ، وفيها كلّ صفوف المرحلة الابتدائيّة حينها من الصّف الأولّ وحتّى السّادس ذكوراً وإناثاً،وكان فيها معلّم وحيد يقوم بتدريس كافّة الصّفوف ، كان عمري خمس سنوات عندما قبلت للدّراسة في الصّف الأولّ حينها بعد سبر لكلّ الأطفال الّذين كانوا من عمري في القرية ولم يقبل منهم أحد سواي وكانت الفرحة عارمة ولم أصدّق أنّني سأذهب إلى المدرسة ؛ وفي اليوم الأولّ من دوامي في المدرسة استقبلني المعلّم وأجلسني في المقعد الأول مع ثلاثة طلّاب آخرين على ما أذكر، وقام بتعريف طلّاب المدرسة بالوافد الجديد ، وتفقّد ما أحضرت للدّوام من قلم رصاص وممحاة وكرّاس الكتابة في الحقيبة القماشيّة المتواضعة التي كنت أحملها، وطلب إليّ الإنصات والانتباه إلى شرحه وهو يعلّمنا دروس القراءة والحساب الخاصّة بالصّف الأوّل …
ومن صفات هذاالمعلّم أنّه ذو قامةٍ طويلةٍ ، وشخصيّةٍ قويّة ، وصوتٍ هادر ، ونظرةٍ ثاقبة ، ويتمتّع بالحيويّة والنّشاط ، والمتابعة الحثيثة لتفاصيل الدّرس الّذي يشرحه ، وكان حريصاً على تفاعل التّلاميذ وتركيزهم الشّديد في المعلومات التي يعلّمها والّدروس الّتي يلقيها ، وكان يطلب من طلّاب كلّ صفّ التّحضير للدّرس القادم المخصّص لهم بعد أن ينتهي من شرح درس الصّف الّذي قبلهم ، وكنتُ أراقب معلّمي كيف يدير العمليّة التدريسيّة للصّفوف كلّها ويفتّش على الوظائف البيتيّة ، ويسمّع المحفوظات للتّلاميذ بشكلٍ متقن ، وأنتظر بفارغ الصّبر درس الصّف الأوّل كي أثلج صدره بكتابة الوظيفة وحسن حفظي للواجب المنزليّ المطلوب ، حيث كنت أعتبره خير من يقيّم اجتهادي واهتمامي بالدّراسة ، وذلك بإحساسٍ ذاتيّ منّي بواجبي تجاه معلّمي الجليل وألّا يضيع تعبه وجهده الكبير في تعليمنا وتدريسنا وتنشئتنا …
وبما أنّ القرية كانت بعيدةً عن قريته كان معلّمي يبقى طيلة الأسبوع بضيافة أهل القرية حتى يوم العطلة ، وكان يوصل رسائله للأهل بشكلٍ يوميّ بعد الدّوام عن مستويات أبنائهم في المدرسة ، وينبّههم عن تقصير البعض وحثّهم على الاهتمام والمتابعة للأولاد كي يتعلّموا ويؤدّوا واجباتهم المنزليّة بشكل جيّد وعدم إشغالهم بأعمال أخرى تؤدي إلى تقصيرهم فكان حضوره في تربية وتنشئة طلّابه مع الأهل خارج أوقات دوام المدرسة ، مما أكسبه احتراماّ وتقديراً كبيرين من أهل القرية كلّهم، وبفضل اهتمام هذا المعلّم القدير تخرّج من هذه المدرسة أو من غرفة المدرسة الوحيدة جيلٌ متعلّم ومتميّز نجح في كل مجالات الحياة التي خاض غمارها لاحقاً …
دارت السّنون وانتقل هذا المعلّم إلى مكان آخر وانقطعت السّبل إليه بعد تلك المرحلة ، حتى صادفته بعد عدّة عقود في مشروعٍ تربويّ خاص كان حريصاً على السير فيه ليكمل مسيرته السّاطعة، وطلب إليّ المساعدة بحكم اختصاصي ،فكان حظّي السّعيد بردّ الجميل وتطوّعت بكلّ ما أملك وقدّمت ما يلزم و كأنّني أقوم بتأدية واجب وظيفة أو تسميع للدّروس الّتي علّمنا إيّاها على مقاعد الدّراسة الأولى في حياتي وأثبت له حسن تنشئته لطلّابه عندما كنّا ننهل العلم من معينه …
وصرتُ كلّ عام أعايده في مناسبة عيد المعلّم ، وأذكّره بالأيّام الّتي كان يعلّمنا فيها بالمدرسة ويزورنا في البيت مساءً والنصائح التي كان يقدّمها لأهلنا للمواظبة على التعلّم والتفوّق واعداً إياهم بمستقبل باهر لنا عندما نكمل تعليمنا ودراستنا ، مفتخراً أمامه بقطف الثمار اليانعة للغرس الذي غرسه في تدريسنا….
ولكنّ فرحتي بمعلّمي لم تكتمل ، وسعادتي بالتّواصل معه بعد عقود لم أنعم بها طويلاً ، حيث أكمل الطريق ببذل دمه فداءً للوطن ورفعته حيث طالته يد الغدر وارتقى شهيداً على ثرى بلادي الطاهر، وتعلّمت منه درساً آخر في التضحية بأغلى ما نملك وبذل النّفوس ليبقى الوطن عزيزاً شامخاً ، وكان هذا الدّرس الأخير والأبديّ لي عندما صار معلّمي شهيداً.
منذر سعده