لأقل إنّني لستُ أوّل مَن يشير إلى هذا القلق، ولن أكون آخرهم، وربّما بدا للبعض أنّ ثمّة ما هو أهمّ يمكن الإشارة إليه، ولا اعتراض، غير أنّ هذا وغيره لا يلغي أهميّة ما سأشير إليه، انطلاقاً من أنّ المسائل تتساند وتتشابك، وتتكامل، وقد سبق لي أنْ وردتُ هذا المورد.
الأوّل هو الشّكل الحادّ المؤذي لمعظم ما ننشئه من بناء، فهو لا يعدو كونه إقامة جدران وسقوف، خالية من أيّة لمسة فنيّة تقع عليها العين، وهذا متناقض مع روح العمارة العربيّة الاسلاميّة التي اهتمّت بالقيمة الجماليّة من الخارج ومن الداخل، ويمكن الإشارة إلى أنّ بلدان المغرب العربي أكثر محافظة على تلك الروح من بلدان المشرق، أستثني بعض الاستثناء ما أشيد في العراق سبعينيات القرن الماضي، وضياع الهويّة المعماريّة يرافقه ضياع عن الهويّة في الوعي وفي التربية الجمالية، ولا يمكن الاستهانة بذلك إلاّ عند تجار البناء الباحثين عن الربح لا غير، ولقد أشرت إلى تخوّف من مستقبل الاعمار المنتظَر في سوريّة أن لا يراعي هذه الناحية من حيث الشكل الخارجي.
الثاني هو المسألة الموسيقيّة، وهي الجناح الفني الآخر لهذا الطائر، فمَن يستمع إلى معظم الغناء، والألحان، السائدة والتي تُبثّ، وأرجّح أنّ تعميم السطحي والمتدني، والذي لا روح فيه، بعضه مقصود، ومخطَّط له بطريقة خبيثة، والبعض الآخر يسير مع التيّار، ولا يعنيه إلاّ أن يحصل المطرب على الالاف من الدولارات في كلّ حفلة ، ولا أقول الليرة السوريّة!!
إنّ هذا التشوية يعني تشويه الذائقة الفنيّة، ولعله من المهمّ التذكير بالمقولة” إذا أردتُ أن تعرف سويّة شعب، فاستمع إلى موسيقاه،
لعلّ مَن يقول إنّ هذا السّائد في العالم، وقد أوافق جزئيّا على ذلك، وهو لا يخرج عن الأهداف المُضمَرة لأغراض سياسية اقتصاديّة اجتماعيّة، تحرّكها قوى خفيّة لتحقيق ما ليس إنسانيّاً، بيد أنّ ذلك في البلدان التي نصفها بالتقدّم ليس بحجم الاجتياح في البلدان الراغبة في الطموح، فما يزال لديهم دور الأوبرا، والسمفونيات التي تُعزف، أمّا في هذه المنطقة فكأنّ ثمّة طلاقا بين الموسيقا والغناء الأصيل الجميل، الذي لم نعد نسمعه إلاّ بالمصادفات،
بخصوص هذا الأمر قرأت كلاما لمحمد كرد علي جاء فيه:” قالوا إنّ علم المباني فنّ من الفنون الجميلة بل هو أحسنها، إذا قارنّا بينه وبين الموسيقا نجد أنّ كليهما مُطرِب للإنسان، فالأوّل مكوَّن من نغمات غير متنافرة منتظمة الأوقات، والثاني مكوّن من تراكيب وأوضاع غير متنافرة الأجزاء، يُظهر الأوّل مذبذبات العدد والأوتار يحملها الهواء إلى الآذان فيطرب بها الانسان، ويُظهر الثاني الظلّ والضوء والألوان فتراها العين في أتمّ ما يكون موضوعه بنسب محفوظة ما بين مُزخرَف وبسيط تظهر علينا المتانة والراحة فتشتاق إليها النفس، فكلا الفنّين جميل، غير أنّ الأوّل تذهبُ محاسنه في الهواء، وبعد ذهابه لا يشعر بها أحد، وتبقى محاسن الثاني ما دام لها ظلّ”، ولستُ على اتفاق مع رأي أستاذنا كرد علي من أنّ محاسن الموسيقا تذهب في الهواء، بل هي ترسخ في النفس بجمالها، وتلعب دورا كبيرا في تهذيبها، ولها دور عميق يؤكّده علماء النفس والتربية في صقل الروح الانسانيّة، وفي تريبة النّشء، وليس مجهولا دورها حتى في عالم الحيوان كما هو معروف،
لعلّ مَن يقول ألمْ يبق غير هذا الهمّ؟، ويبدو أنّه على حقّ، لأنّه يُضمر في إعماقه أنّ تأمين اللقمة الوظيفة الأولويّة، ولا جدال ولا نقاش في ذلك، لأنّ الجائع تسأله عمارتان وعمارتان كم عمارة، فيقول أربعة أرغفة..
عبد الكريم النّاعم