ثمة سير وأحداث، لها مكانها في التاريخ الثقافي والشعبي، الشفوي والمكتوب، وهذه السير تتخذ شكل الملحمة الشعبية التي انتقلت من الرواية الشفوية إلى المكتوبة والأمثلة كثيرة : سيرة بني هلال، الملك سيف بن ذي يزن،الظاهر بيبرس، شجرة الدر… الخ.
من بين هذه السير تستهويني السيرة الهلالية أو سيرة بني هلال أو التغريبة الهلالية، وقد لاحظت من خلال الأحاديث عنها أن ما نعرفه عنها قليل، ونتحدث عن ” أبي زيد الهلالي” دون أن نربط رجولته بالحالة الاجتماعية لقبيلته الهلالية.
في الذاكرة الشعبية العامة سيرة بني هلال، هي تمثل الشهامة والفروسية ومجابهة المخاطر، والترحال من أرض إلى أخرى بعيدة والهدف الماء والكلأ . هذا بشكل مبسط،وهذه ” التغريبة ” تقول الكثير فقبيلة بني هلال استوطنت منذ الجاهلية مناطق الحجاز والطائف وحول مكة المكرمة، وفي بداية القرن الخامس الهجري ، الحادي عشر الميلادي، وبسبب السنوات العجاف، قررت التوجه غربا ً إلى مصر وتونس والجزائر والمغرب فالهدف المعيشي الاقتصادي كان الهدف الرئيس،وخلال هذه الرحلة التغريبية كانت المخاطر والأهوال والصبر والمعاناة تتجسد في شعرهم المحكي والفصيح وفي مسابقات الشعر والفروسية لديهم .
الحياة الجديدة على الشاطىء المتوسطي وفي جنوب الجزائر، وتوفر الماء والكلأ، والانفتاح، إلى حد ما، على الناس هنا، لم ينس الهلاليون تاريخهم وحنينهم لموطنهم الأصلي ولأبنائهم الذين بقوا هناك وهم قلة على أية حال.
والملحمة هذه صاغها عدة شعراء وليس شاعراً واحدا ً، على مايقال، وأضيف إليها الكثير لكنها “هلالية” بامتياز أي من شعر شعراء بني هلال.
فانتشرت إلى مصر ثم إلى بلدان المشرق العربي وصارت جزءا ً ثمينا ً من التراث العربي والثقافة العربية، ثم ترجمت في القرن العشرين إلى العديد من اللغات الأجنبية وصارت موضوعا ً للسينما والرواية والقصيدة العربية، فهي تاريخية، وثاثقية من جهة وأدبية خيالية من جهة الأخرى،و منجز ثقافي عربي، والهلاليون إلى اليوم ، يحفظونها لأبنائهم في جنوب الجزائر، على مايروى.
وعندما سمع بها ابن خلدون دهش بها ، ودهش أكثر لإيمان الناس بكل ما جاء فيها ورفضهم القاطع التشكيك بأحداثها فقال:
( يكاد القادح فيها أو المستريب، إذا وجد/ يتهم بالجنون ..)
الكتابة المعاصرة التي تستلهم سيرة بني هلال في الرواية والسينما والدراما الإذاعية والمرئية، تسقط الأحداث التاريخية على واقعنا المعاصر، فتبدو الهوة الكبيرة بين ” ما كان وما هو كائن”.
اقتحمت التغريبة فضاء الأدب العربي ، باعتبارها تراثا ً أدبيا ً خالدا ً, وباتت رمزيتها حاضرة في الكتابات المعاصرة ، فالتاريخ هنا يشحن الحاضر، ويثير الوجدان العربي..!!.
غير أن الإنصاف يقتضي القول إن ثمة انحرافا ً بالأحداث التاريخية لأسباب فكرية ، قد شوه النص الحديث عن السيرة، وهو نص يتمتع بسلطة التاريخ وسلطان الخيال ..!!.
عيسى إسماعيل