حين أرجع بالذاكرة إلى تلك الأزمنة التي عبرناها، أو عبرتْنا، يغلب عليّ الاقتناع الرّاسخ بأنّ ثمّة أزمنة يمكن وصفها بأنّها أزمنة معطاء،مُغْدقة في خيراتها، وثمّة أخرى تبدو قاحلة ليس فيها إلاّ الجَرادة، والإقفار، وقد لا يحتاج هذا لدليل، فما نمرّ به شاهد لا يُدحض، عجّل الله بالفرج على البلاد والعباد،
أعود أحياناً، مُكرَها، لبعض الأوراق والدفاتر المُبعثرة، وفي كلّ مرّة أهرب من ذلك، وفي شيء من خداع النّفس، والمماطلَة غير المُجدية، ولقد تكرّر هذا معي أكثر من مرّة، وفي كلّ واحدة يشبه حالي حالة سيّدة بيت تريد تعزيل البيت بما فيه السقيفة، فتصوّروا كم هو شاقّ هذا، ومُتعب،
بين الأوراق التي عثرتُ عليها، رسالة يرجع تاريخها إلى 30/9/1981، أي بيننا وبينها قرابة أربعين سنة ، وقبل أن أسرد ما جاء فيها أشير إلى أنّ جيلنا في هذه المدينة، حمص، وقد لا يخلو هذا من مدن أخرى، ظلّ يحتفظ لأساتذته الذين علّموه وربّوه بالكثير من الاحترام، والاجلال، وبعض هذه العلاقات تحوّل إلى صداقة بعد أن شببنا عن الطّوق، كما يقال،
صاحب هذه الرسالة هو أستاذنا وأستاذ أجيال عديدة من أبناء ذلك الزمن، وهو الأستاذ المرحوم عبد العليم صافي وقد كان من الوجوه المعروفة في هذه المدينة، وكان مدرّسا في عدد من إعداديّات وثانويات حمص،
جاء في الرسالة :” يا شاعري، في هذا المظروف ما كُتب لك عن ديوانك ” عنود”، -( وهو ديوان صدر في العام ذاته المشار إليه)- وما كُتب للأخ ممدوح السكاف عن ديوانيه” نشيد الصباح” و” شواطئ بلادي”، اللذين أُعيدهما إليك شاكراً، فإذا وجدتما في هذا الذي كتبتُه إليكما ما يستحق النّشر فانشراه حيث شئتما، ووقت ما تريدان، وإلاّ، فمزّقاه، وإنّي وإنْ كنتُ لا أحتفظ بمسوّدات لِما أكتب فلستُ بحاجة إليه، لأنّني لستُ محترفاً، ولأنّني لا أكتب إلاّ عن قناعة، وقد أُخطئ، ولربّما أُصيب، ما كتبتُ لك عن ديوانك ” عنود” طويل، فإنّ وجدتَ أنّ نشْره، ” إذا أردتَ النّشر” ، في حلقة واحدة مزعجاً فأرْجعه إليّ لأوّزعه على حلقات، بحيث لا يختلّ الانسجام والوحدة المقصودة، ستفتخر مكتبتي حقّاً وصدقا بديوانك، وإنّ أبنائي وأحفادي حين يرجعون إلى مكتبتي في مديد من زمن، سيجدون هذا الدّيوان كنزاً، لك شكري، وكلّ ما في أعماقي من توفيق لك، في عطاء ثرّ ومتميّز، ودم أنت و”ممدوح” لكلّ الذين يحبّونكما ممّن حولكما من أعزّة وغوالٍ
ملاحظة:” لك ولممدوح أن تحذفا ما تريدان ممّا أكتب
المخلص عبد العيم صافي
وقد نُشرت الدراسة في صحيفة العروبة الحمصيّة،
ليست الغاية أنّ أقدّم شهادة أعتزّ بها لتلك المجموعة، بل أردت أن ألفت الانتباه إلى:
-اللغة الأدبيّة الرفيعة التي يمتلك ناصيتها أستاذنا الجليل،
-التّواضع الذي لا يقدر عليه إلاّ أصحاب القامات الشامخة في تواضعهم،
-عدم الادّعاء، بل هو يطلب أن نحذف ما لا نراه مناسبا، فهل يقبل الآن المبتدئون بعض هذا؟!!
-سمة القدرة على الكتابة الرّاقية كانت سمة عامّة في أساتذة تلك الأزمنة، حتى الذين كانوا يدرّسون موادّ علميّة بحتة، وفي الذاكرة المرحوم الأستاذ وائل أتاسي الذي كان مدرّسا لمادّة الرياضيات، وقد صدر له أكثر من كتاب، تأليفاً وترجمة طُبع بعضها في وزارة الثقافة،
رحل أستاذنا الجليل رحمه الله، ورحل صديقنا الشاعر والنّاقد ممدوح السكاف، ورحل آخرون، وعلى الذين أبقتْهم الأقدار على قيد الحياة أمثالي أن يواجهوا كلّ تلك الغثاثة الطافية في كلّ زاوية، والمُطلّة من شرفات المنازل ….
عبد الكريم النّاعم