بعيداً عن التّشنّجات، والتّمترس الأصمّ، أقول إنّ الكلام هنا عن الخسارات الكبرى، وعن تضييق الآفاق التي يؤدّي إليها استبعاد الإيقاع الوزني في بعض ما يُكتب بدعوى أنّه استُهلك، وأنّه تكرار ، وبقايا موروثات مُتجاوَزها، وهو قول مصدره العجز، وفقدان الموهبة،
حتى ثمانينات القرن الماضي كان من تحرّكه دوافع الشعر يقرأ المتنبي، وأبا فراس، وأمثالهما وهذا يزوّد القارئ بالقدرة على التّمييز بين الحسَن والأحسن، كما يزوّد الأذن بحساسية الإيقاع الشعري،
قراءة الشعر العربي القديم تفتح آفاق ككتب التراث الأخرى، وأمّهات الكتب التي لها علاقة بالتراث المتفتّح، ويفتح الآفاق على الحضارات الأخرى ، وهذا بداية الاكتمال بالآخر ، فبماذا يستعيض مَن يسيرون على هذه الدرب ، ويذهبون للبدء من سوزان برنار،؟!
لقد جاءت أنماط الغرب متوافقة مع مساره الخاص، فلماذا نعمّمها؟
البعض ربط كتاباته بما أُثر من أقوال الصوفيين، ومن يقتدي بهم لم يتنكّروا للإيقاع،
البدء من أسماء قليلة معاصرة يعني أنه بدء بغير جذور،
لقد عرفنا في تاريخنا الشعري القريب ، قبل طغيان موجة محاربة الإيقاع الشعري، عرفنا قامات عالية من شعراء العربيّة، ما عرفوا شيئاً عن قصيدة النّثر إلاّ في أيّامهم الأخيرة، وبعضهم لم يسمع بها، ويكفي أن نتذكّر هذه الأسماء أحمد شوقي ، حافظ إبراهيم، خليل مطران، إلياس أبو شبكة، بشارة الخوري، الشاعر القروي، بدوي الجبل، الرّصافي، عمر أبو ريشة ، نديم محمد ، والقائمة طويلة، وليس هدفنا التّعداد بل الاستشهاد،
أعتقد أنّ على الذين يريدون التزوّد بما يعتبر أساساً في الكتابة، حتى من الذين يؤثرون كتابة قصيدة النّثر، لأيّ سبب كان، أن يعودوا إلى التّراث العريق في أدبنا العربي، فليس معقولا القطع معه لأنّ شعره كان إيقاعيّاً!!
قديماً كان من يريد دخول حرم الشعر ، كراغب في إثبات أهليّته لدخول تلك الحضرة،.. يحفظ الكثير من الشعر العربي، وهذا يقوده بدوره إلى التّنقيب في أمّهات الكتب التي تغني معارفه، فإذا هو يطلّ على مساحة ذلك التّراث المشهود له شرقاً وغرباً ، من أصحاب الوجدان الحيّ، بعظمته، وبقيمته الإبداعيّة، والإنسانيّة، والذي يُراد له، على أيدي البعض، أن تختفي دفعة واحدة، لا لشيء إلاّ لكي يعيش نمط واحد من أنماط الكتابة ، !!
لست ممّن يترخّصون في توجيه الاتّهامات، والإحالات على الغرب، فأرضنا ملك لكلّ أبنائها ، ونحن من أبنائها انتماء، ودفاعاً عن كرامتها، وقد لا يسرّ البعض مثل هذا الانتماء، من الذين ذهبوا بإرادتهم، إلى مواقع المروق والانخلاع، غير أنّني أخشى أن يتطرّف البعض، بدوافع محض شكليّة، فيوغل بعيداً، فإذا هو في لحظة انفعال عالية، يدير ظهره لهذا التراث ليثبت للأجيال أنّ وجهة نظره هي العليا،!!
لكم أتمنّى ، في فورة الجيل الشاب المُقبِل على قضايا أمّته أن يكون من جملة قضاياه الإجهاز على كامب ديفيد وأخواتها، ولستُ أُقحم ذكرها، فبعض أهدافها تدمير كلّ ما هو أصيل،.. مع هذه الانطلاقة أتمنى أن يكون لها ما يتشبّه بها على السّاحة العربيّة الأدبيّة، جرأة، ووضوحاً، ووعياً، وخصوصية، وتلاحماً في الوعي والانتماء،
الإبداع في جوهره ( تميّز) لا ( امتياز) في التّفاعل مع قضايا المستضعفين في العالم، فإذا عرفنا كيف نلتقط اللّحظة، فسيكون ذلك بداية وعي أدبي ، لا يقبل في النشر إلاّ الجيّد، ولا يقف موقفاً سلبيّاً إلاّ من الرّديء، لتنقية السّاحة الأدبيّة كلّها، بلا استثناء، من الشوائب التي علقت بها، والذي يشمل كلّ الأنماط الأدبيّة الشعريّة، فكما عمّ الفساد، عمّت الرداءات الشعريّة، …
عبد الكريم النّاعم