1
العنوان كبير، ويحتاج إلى مؤلّفات ، وسأتناول جانباً صغيراً منه، وإذا كانت الحداثة في الغرب قد أجرت عمليّة قطع مع الماضي، فإنّ هذا لا ينطبق بالضرورة على وطننا، فثمّة أمم قدّمت عبر تاريخها ما تُفاخر به، وأضافت إلى روح الانسانيّة ما يليق، وهو ما لا ينسجم مع روح العولمة المتوحّشة اجتثاثاً.
أوروبا حقّقت نهوضها بحيويّتها، وباستفادتها من حضارات أخرى، وكانت قبلة في ذلك، الان ثمّة أمم عريقة كالصين، والهند، وإيران، .. سننتظر كيف ستوائم تلك البلدان بين معطيات العصر الحضاريّة ذات الملامح الغربيّة وذلك الموروث التاريخي، وهل ستعمد إلى افتتاح ازمنة جديدة تأخذ كلّ معاصر نافع، وترمي كلّ موروث مكبَّل، لتؤذن بانتهاء عصور الهيمنة الغربيّة الاستعمارية الظالمة.
2
نحن العرب مازلنا بعيدين عن استعادة دورنا الذي حلمنا به مع مطالع القرن العشرين،.. شيء من الدّور الذي حلمت به أجيال متعاقبة، منذ مطالع القرن الماضي ، وما زلنا في حالة مكاسرة فكريّة، ونتفوّه بالحداثة دون إرساء قواعدها، هذا أفقيّاً، أمّا عموديّاً فما زلنا، في العديد من المقاطع، في حالة ما قبل المدنية، ورغم ذلك فثمّة مساحات إبداعيّة كان جدل الحداثة فيها نافعاً، وعميقاً، ومحرِّكاً، ويفتح أفاقاً فكريّة عالية، الاندفاع العفوي غير المبرمج على ثقافة الغرب خلق هوّة بين الأدباء والمفكّرين و..الشرائح الاجتماعيّة، ولا يكفي الانتماء لقضايا الفقراء، والدفاع عنهم ليستوعبوا ما نقوله ، بل كثيراً ما أنبأنا التاريخ القريب أنّ بعض تلك الشرائح، بسبب الجهل، وإشاعة الخرافة، والشّعوذة، والنّفخ في روح التّعصّب.. كثيراً ما تتحوّل إلى أداة عمياء .
3
من جملة ما ناقشه ( الحداثويّون) القطع مع الماضي، والانطلاق من البناء على أفكار جديدة، أقلّها ليبرالي، وأعلاها تشدّداً يساري، ولقد أثبتت المجريات أنّ هموم الحداثة كانت في واد، وهموم الناس في واد آخر، فكان فضاءُ ذلك الحراك أوساط المثقّفين، وظلّت الأحياء البعيدة، يتداوى بعضها بـ ( الحجب) المكتوبة، ويبحث المسروق عن الفاعل عند مّن يضربون ((المندل)، أو يؤاخون الجنّ!!
4
“الإيقاع” في كلّ ما حولنا قائم، وهنا نتوقّف جزئيّاً عند ما يلي :
- أمثالنا الشعبيّة، الفصيحة والمتداولة على ألسنة العامّة.. نلاحظ أنّها تقوم من حيث البناء العام على التّقفية، وعلى شيء من ( الموازنة) الفنيّة لا( الوزن)، ربما لأنّها تقرّبها من الشعر، وتجعلها أسهل في الحفظ ،
- (القوّالون) الذين يُبدعون أنواع الغناء الشعبي في سورية، بأنماطه المتعدّدة، يُسمّون في الأوساط الشعبيّة ( شعراء)، وليس شاعراً عندهم مَن لا يكون قوله مبنيّاً على سلامة الإيقاع، ولا يقبلون ورود الكسور الوزنيّة، ولذا كان غناء التراث كلّه موقّعاً، وحتى الأغنيات الجديدة ملتزمة بالإيقاع.
ما سبق يطرح مسألة تلحين النثر، وهذا ممكن، وقد روي عن السيد درويش أنه قال لو أردتُ تلحين افتتاحيّة صحيفة لفعلت، وأقدم على شيء من هذا الأخوان رحباني، وتابعهم في ذلك آخرون، وهذا ليس شاهد عدل على ( النّثريّة)، بل هو ضمناً شاهد على ( الإيقاعيّة) لأنّ النّثر الملحّن لابد له من أن يأتي لحنه على أوزان معروفة في الإيقاع.
لنأخذ قصيدة ذات إيقاع يناسب عمر الأطفال، وأخرى نثريّة ، ولنطلب حفظها وسوف نجد بكلّ تأكيد أنّ ما هو إيقاعي هو أسهل على أولئك الأطفال، لفطرة في النفس.
ليست دعوة للقطع مع كلّ مفيد، بل دعوة للاستفادة من كل ما يفيد…
عبد الكريم الناعم