اندفعت نحو المزراب ووضعت كفي الاثنين تحته كي يمتلئ بماء المطر المنهمر ،ثم شربت بتلذذ ما هو موجود في كفي وكررت ذلك عدة مرات حتى ارتويت ,كانت المزاريب تتدفق ،والمطر ينهمر بغزارة ،وكنت للتو قد جلبت القطيع من المرعى ،والليل بدأ يرخي سدوله ،لكن ليس بأنواع الهموم ،كما قال امرؤ القيس في معلقته الشهيرة .
ركضت نحوي ،وأمطرتني بكلماتها التي لا أنساها ماحييت (الله يعطيك العافية ..لولاك لا أحد يجلب الغنم ،ولا يرعاها ..مشكلتك أنك الابن البكر الذي يتعب ويشقى …ما أحلى وجهك تحت المطر يابني )…رحمك الله يا أمي.
كانت كلمات أمي هذه تجعلني أكبر بسرعة ..هكذا قدرت ،وتجعلني أواظب كل يوم على رعي القطيع المؤلف من عشرات الأغنام ،بعدما ينتهي دوامي المدرسي.
كان بيتنا ،في تلك السنين ،كما أغلب بيوت الريف من الحجر والطين،وكنا قبل نزول المطر نحدله بالمحدلة كي يتماسك طين السطح فيمنع المطر من النفاذ ..والمحدلة حجر أسطواني كبير يسحب من طرفيه بقضيب حديدي ،وتمرر المحدلة مرات عديدة على السطح.
يقولون عن تلك الأيام ،أحياناً إنها أيام الزمن الجميل لكنني لا أعتقد ذلك ،فهل تبلل أثاث البيت أحياناً بالمطر هو أمر جميل ؟وهل الطرقات والأزقة الضيقة الملآنة بالطين وبرك الماء أمر جميل !!وهل مدفأة الحطب التي تتحفنا بالدخان الكثيف الذي يملأ البيت المكون من غرفتين أو ثلاث -واحدة لمعيشة الأسرة- ..فهل هذا أمر جميل ؟! لا أعتقد ذلك.
نحن عندما نتذكر تلك الأيام ،كذكرى ،نشعر بالسعادة ،لأننا نستعرض شريط الذكريات وليس لأننا كنا سعداء بمعنى السعادة ،في تلك الأيام قبل ستين سنة ..!!.
التطور المادي ،بكل أشكاله بعد ثورة الثامن من آذار 1963،جعلنا نعيش حياة أخرى ، البيوت صارت من الاسمنت المسلح والحديد ،ونسينا المحدلة والثياب المبللة داخل البيت ،والكهرباء أنارت ليس فقط بيوتنا وقرانا، بل وعقولنا ،لأنها ارتبطت بالتلفاز ،والمدارس انتشرت والشوارع عبدت ..لكن أمراً واحداً افتقدناه كاللقاءات اليومية في السهرة ، …هذه أمور بدأت تتلاشى …فالحياة العصرية أخذت منها كل هذا… هنا يمكن أن نقول (كان الزمن جميلاً).
كنت إذا مرضت لا يبق أحد في القرية إلا ويزورك وإذا جئت من السفر , وإذا تعرض بيدرك للحريق فأهل القرية يعوضون عليك بأكثر مما تفقد,وإذا انتقل أحد إلى الدار الآخرة ،فالحداد يعم والصغير والكبير ،وكل من يستطيع المشي ،يمشي وراء الجنازة ،ويستمر الحداد التام لشهرين أو أكثر …اليوم للأسف لا شيء إلا القليل جداً من هذا !!!
كان الواحد منا يرفع رأسه ويقول ويقسم إنه لم يلمس الحرام ،ولا رد محتاجاً دون أن يلبي حاجته ،ولا قال (أف)بوجه أمه وأبيه ،ولا أذاع سراً ولا أراد بأحد أذىً…
والسؤال كم واحد منا ،في هذا الزمن ،يستطيع أن يقسم هذا القسم …
لكل الأمهات في سورية كل عام وأنتن بخير ..
ولأمي …رحمك الله ورحم الأمهات اللواتي رحلن عن هذه الدنيا الفانية إلى دنيا البقاء .
عيسى إسماعيل