دخل صديقي، وكان يفرك راحتي كفّه، ويقول:” أَحْ برْد”، وتابع :” ماذا تفعل مع هذا البرْد”؟!!
قلت بعد تنهيدة محشوّة بالصقيع الذي يُحيط بنا حتى ونحن في الفِراش :” وتسألني؟!! وأنت تعلم أنّني رجل شديد الحساسية تجاه ما ذكرت؟!! أنت تعلم كم أكره البرْد منذ بواكير طفولتي، فكيف وأنا في هذه الشيخوخة الموغلة”؟،
قال:” تختلف حساسية الناس في هذا”
قلت: أعرف، وسأحدّثك عن رجل أعرفه، صار الآن في دنيا الحقّ، كان الثلج في مدينة حمص يغطي كلّ شيء، ودخل أبوه إلى غرفته، وهي “مليّسة” بدون دهان، فوجده عاريا إلاّ ممّا يستر العورة، وقد استلقى على السرير، وسلّط على نفسه مروحة وأدارها، أخذت المفاجأة الأب، وقال له:” أسألك بالله، لو أردتُ أنْ أحّدث أحداً بما رأيت هل يصدّقونني”، فأجابه بحيادية باردة قائلة:” يا أخي أنا مشوَّب.. وأضيف إليها من الذّاكرة البعيدة، أيام الطفولة أيضا، فقد كان قريباً من بيتنا رجل شديد الحساسية للبرد، فكان في أيام الصيف صباحا، يُشعل بعض الأعواد الجافّة ويجلس قربها ليتدّفأ،
قاطعني : ما السرّ في ذلك”؟
قلت:” في ذاكرتي إذا لم تخنّي أنّ ثمّة حُبيبات حساسية تحت الجلد، هي التي تعطي ذلك الإحساس، وهي تختلف من شخص لآخر.
قال:” وكيف تتعامل مع نفسك في هذا الزمهرير الذي تقول إنّه قادم من أعماق سيبيريا”؟
قلت:” أرتدي ثيابي، وأشدّ زنّارا صوفيّا، وأغلِق فتحة سترة شتويّة، وألفّ نفسي بفروة من صوف الأغنام، هي قديمة عندي،.. وأجلس معطَّل الحواس، فالبرْد يشلّ كل إمكاناتي الجسدية والفكريّة، وأنت تعرف أنّ مادة المازوت مفقودة، والدّفعة الثانية التي أبلغوني أنّه حُجز لي دور فيها، أرجّح أنّها لن تصل وثمن ( بدون) المازوت، إذا وُجد مائة ألف ليرة سوريّة، وهذا يعني أن راتبي وراتب زوجتي سيشتري ( بدوناً) واحدا، ويزيد منه قرابة الثلاثين ألفاّ، فماذا تفعل بها، والأسعار في ارتفاع جنوني، وهي بيد التجّار الكبار، حيث لا حسيب ولا رقيب، ما يُباع اليوم قد يتضاعف سعره في اليوم التالي، فماذا نأكل وماذا نشرب؟!! وهذا يكاد يذهب بما تبقّى لنا من عقل”
قاطعني:” أنا أعلم كم يؤذيك البرْد، وها قد اجتمع علينا الغلاء، وفقدان المازوت والغاز، وهذه الموجة الجليدية التي تبدو أنّ لا آخر لها”
قلت:” منذ الطفولة أكره البرْد، وهذا لا يعني أنّي أكره الشتاء إذا كان خالياً من البرْد..
في المدرسة الابتدائيّة حدّثنا معلّم الجغرافيا أنّ هناك في الهند مناطق، يفصل بينها خطّ الاستواء، فإذا كان الجوّ باردا ، يكون جنوب الخطّ دافئا، ومنذ تلك الأيام كنت أحلم لو أستطيع الانتقال إلى المنطقة الدافئة، وكنتُ في الطفولة حين تُوقد أمي نار التنّور أجلس على فسحة منبسطة ممتدة، ولا أكتمك أنّني أتابع النّشرة الجويّة، فأحلم، في هذا البرْد، أن أكون في الخرطوم، أو نواكشوط، ويظلّ الحلم حلماً باردا لا يُدفئ.
قال :” هل ترى ثمّة انفراجاً في القريب العاجل”؟
قلت:” عن أيّ انفراج تتحدّث يا رجل، في البلدان المتقدّمة في أوروبا بدأوا يشكون من نتائج العملية العسكرية الروسية الخاصة لحماية دونباس, صحيح أنّهم لا يعانون كما نعاني، ولكنّ الزلزال الأوكراني رجّ أوروبا بقوّة”
قال مواسياً:” غداً في الصيف حين يشكو الناس من شدّة الحرّ يكون بيتك وكأنّه مُبرَّد”
قلت:” صدّقني أنّني حتى في تلك الأيام أخاف من برد الشتاء القادم، فما أكاد أستمتع به”…
عبد الكريم النّاعم