كانت الشمس في كبد السماء ترسل أشعتها الحارة وكنا قد رجعنا للتو من المدرسة ، بعد انتهاء الدوام ، وفي الطريق من المدرسة إلى منازلنا، كان كل واحد منا يفاخر بما جاء به والده من مؤونة رمضان من مواد غذائية متنوعة ، وكان الصيام قد بدأ قبل يومين ولأننا صغار لا نقوى على الصيام فقد اقترح أهلنا أن نصوم نصف يوم ، وهكذا فكل يومين يحسب لنا يوم صيام واحد ، فنكون قد أدينا هذا الفرض ، ونكسب ، وهذا هو الأهم، مشاركة أهلنا الأب والأم طعام السحور الذي كنا نشعر بلذته ونحن في آخر الليل نتناول البيض والجبنة وغيرهما مع الشاي .
كان لصوت موقد الكاز أو طباخ الكاز صوت يجعلنا نستيقظ دون أن يوقظنا أهلنا وعندما يكون الأب غير راض عن واحد منا فكان يقرر حرمانه من السحور لأنه إما مقصر في دراسته أو لأنه لم يحسن رعي الأغنام والبقرات فتركها ترعى في حقول الغير الذين يشتكون للأهل فيكون العقاب (ما في سحور لك اليوم ).
وهنا لابد من التوسل للوالدة كي تتوسل هي الأخرى للوالد ،أن يصفح عن الابن المعاقب فالدنيا رمضان ، والله غفور رحيم ومن رحمته وعفوه يستمد الصائم هذه الصفات .. وهكذا يصدر العفو بعد أن يقسم الولد المعاقب أنه سوف يكون راعياً جيدا أو يكون تلميذاً مجداً..!!
غير أن الفرح ، في رمضان يكون كبيراً عندما تستضيف الأسرة أحداً ما أو عدة أشخاص لتناول الإفطار هنا تكون الوليمة عامرة بلحم الدجاج البلدي والبيض البلدي أو البرغل (وهو الأساس ) المطبوخ بالسمن البلدي ..واللبن الرائب ، وكلها من النتاج المحلي المنزلي …فأين هذه الأيام من تلك …!!
كنا نتبادل أطباق رمضان مع الجيران فترى المائدة فيها ألوان شتى من الطعام وعندما يكون خلاف ما أو توتر في العلاقة مع أسرة ما ،كان رمضان يمحو هذا وتعود الألفة بين الناس… فرمضان كريم خلقاً وسعة يد وكلمة طيبة كشجرة طيبة .
لا أزال أذكر أن عدة رجال ، أغلبهم في سن الكهولة والشيخوخة يرتدون اللباس العربي، جاؤوا لزيارة أبي رحمهم الله جميعاً ، وكان أبي قد أعد العدة لاستضافتهم ،فنحر خروفاً، وجهز لهم طعام الإفطار ودعا عدداً من الرجال من الأقارب والجيران كي يتناولوا الطعام على شرف ضيوفنا الأكارم ،الذين باتوا ليلتهم عندنا فقد أعدّ لهم أبي غرفتنا وزودها بالفرش اللازم ، وبتنا ليلتنا في الغرفة الأخرى وكم كان فرحنا نحن الأطفال كبيراً عندما نفحنا هؤلاء الضيوف الكرام ببعض النقود ، نصف ليرة للواحد منا أو ربع ليرة وهو مبلغ لابأس به للأطفال في ذلك الزمن قرابة الستين سنة ..!!
لرمضان سحر وروحانية وصفاء نفس وأخلاق هي الأخلاق الكريمة في كل زمان ومكان، يذكرنا بها هذا الشهر الكريم …
تقبل الله منا ومنكم صالحات الأعمال .. وكل عام وبلدنا وأهلنا بألف خير …
عيسى إسماعيل