بين عامي 1956-1957 كنت مجنّدا في دمشق أؤدّي خدمة العلم، وكان مبيتي في مكان اسمه « سريّة المقرّ العام»، وكان مهجعنا في الطابق الثاني، مفتوحاّ على قاسيون، وفي الليل تتقاطع آفاقه مع مقصف يقع في الجهة الشماليّة الغربيّة منه، وهو مقصف لايرتاده إلاّ الأغنياء،حيث تصلنا في الليل أصوات الغناء الغربيّ الهادئة، يوم كان الهدوء سمة في الغناء، وقبل أن تكتسحنا موجة الغناء الصاخب، المدمّر لخلايا الدّماغ، وللذائقة العامّة، ويكفي للتدليل على ذلك مايشكو منه أصحاب الذّوق الرفيع في الاستماع.
في الجهة الجنوبيّة من ذلك الموقع كانت الغوطة تمتدّ جنوبا وغربا حتى تلامس موقع مطار دمشق القديم، وتتّسع باتجاه الشرق حتى تتقاطع مع الغوطة الشرقيّة، وليس غرب ذلك المقرّ إلاّ بناءان، حيث تتلاصق الآن فروع كليّة الهندسة، وكم استظللنا بظلال تلك الغوطة التي غلبت على مايجاورنا منها أشجار الزيتون، والتي أصبحت لاأثر ولا عين.
كانت خدمتي في مقرّ رئاسة الأركان القديمة، قرب فندق الشام الآن، وكنتُ مُبدَلاً، أي يعطونني مبلغ خمس وأربعين ليرة كلّ شهر بدل إطعامي، وكانت برّاكات من الصفيح مجاورة للأركان فيها من يقدّمون وجبات بثمن يتّفق مع مافي جيوبنا، وربّك وحده يعلم ماهي اللحوم الموجودة في ذلك الطعام.
المرحوم محمد الماغوط أنهى الأشهر القليلة مجندا من خدمته في هذا المقرّ، ولم تكن له تلك الشهرة التي نالها بجدارة، كما كان بيننا مجنّد آخر كنيته « سويدان» غاب اسمه الأوّل، رغم أنّه صار من الكتّاب الذين كتبوا في الصحف، وكان مشهورا بتقليد صوت الرئيس جمال عبد النّاصر، فإذا قلّده فكأنّك تسمع ناصر، .. ناصر الذي بدأ نجمه يلمع في مصر، لاسيّما بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 والذي قامت به إسرئيل وبريطانيا وفرنسا، فكانت نهايته الاندحار.
ذات زمن من تلك الأزمنة استعصت على فهمي مسألة ميتافيزيقيّة، أقلقتني، وحرمتْني النّوم، لأنّني لم أصل فيها إلى قرار يرتاح له قلبي، وأنا منذ أن وعيت على الدنيا أواجه بيني وبين نفسي تساؤلات ميتافيزيقيّة، أراها جديرة بالتوقّف، للوصول إلى حلّ تجاهها يُرضي (العقل)، ويطمئنّ له (القلب) ، مرّت الليلة الأولى ولم أستطع النّوم، أغمض عينيّ وكلّ جوارحي الباطنيّة في حالة من التوتّر، والصراع، أقدّم وجها فتقف في وجهه وجوه، وهذا القلق عبّرت عنه فيما بعد، بعد قرابة أربعين عاما، فقلت في إحدى قصائدي:«هذي المسافةُ بين العقلِ والقلب، ولا يجتازها إلاّ وليٌّ ، وأنا نُتْفةُ شاعرْ»، ومرّت الليلة الثانية دون نوم، كان الهدوء غامرا، وصوت أنثويّ هاديء يصل إلى أذني من ذلك المقصف، وأنا أتقلّب على إبر من المعاناة، وحين تكون في صميم المعاناة يغيب كلّ شيء إلاّ ألمها، ويبدو أنّي دخلتُ للحظات من النّوم مع الفجر الثاني فرأيت في الحلم كأنّني أمشي في شوارع قديمة لدمشق هي غير الشوارع التي نعرفها، ونور بنّيّ يغمر المكان، وثمّة شفافيّة قد لانجدها إلاّ في بعض الأحلام، فصحوت وكتبت عددا من الأبيات الشعريّة لم يبق بين أوراقي، ولا في ذاكرتي منها إلاّ هذان البيتان:
ياربُّ جاوزْتُ حدّي في مُخامرتي
شتّى الظّنونِ وضاقتْ بالحياة يدي
فامنحْ فؤادي هدوءاً بتُّ أرقبُهُ
في كلِّ سرٍّ تسامى في ذُرى الأبدِ
عبد الكريم النّاعم