المرحلة المقبلة هي مرحلة إعادة الإعمار، وبناء ما دمرته الحرب التي طالت البنى المادية , مثلما نالت من القوى البشرية ، والطاقات الخلاقة في بلدنا ، وهي مع بدء النهوض والتعافي لابد من وقفة تأمل فيما يمكن أن تكون عليه تلك المرحلة التي لا يمكن أن تكون مرحلة سير عادي ، مثلما لا يجوز أن تكون مرحلة استعجال قد يؤدي إلى ضياع الجهود سدى ، فالوقت عامل مهم ، وهو ما يتوجب أن يكون في أولويات التفكير بالمستقبل , وهو أول ما يتوجب الانتباه إليه عند وضع رؤية إستراتيجية تقوم على النظر إلى الجانب الاقتصادي العمود الفقري الذي يمكن أن تنهض عليه أي بلد تريد أن تقوم من جديد ، وهي تسابق عجلة الزمن وتحاول إثبات جدارتها في الحياة الكريمة ، مثلما أثبتتها في ساحات المعركة وميادين القتال .
وإذا انتصرنا في الأرض ، فإن الخطوة الأهم التالية والموازية للنصر هي تأكيد هذا النصر بما يحقق له استمراره ، ويدعمه بعناصر الثبات ويمده بمقومات الاستمرار ، وتلك العناصر والمقومات إنما تقوم على مرتكزين أساسيين هما : تنمية الموارد البشرية ، والدمج المؤسساتي بما يكفل تخفيض الإنفاق ، لأن الدولة اليوم بحاجة إلى هذا التوفير ، وتنمية الطاقات البشرية ، لأن في إنتاجيتها ينمو الاقتصاد وتزدهر المنتوجات ، وهو ما يدعم الاقتصاد الوطني ، ويحقق له نوعاً من النماء والاستمرار وكي لا أظل في إطار التنظير ، فإنني أطرح على سبيل المثال لا الحصر فيما يخص الدمج المؤسساتي يمكن أن يتم دمج المؤسسات التعليمية على اختلاف مستوياتها التعليمية , وتنوع فروعها التخصصية ، وتعدد مجالاتها من علمية ومهنية وشرعية ، وعلى اختلاف مراحلها الدنيا والعليا في التعليم والتخصص في وزارة واحدة طالما أن هذه الوزارات تسعى في النهاية إلى تحقيق هدف واحد هو بناء الإنسان وتكوينه نفسيا وأخلاقيا ، وبذلك تكون الرؤية موحدة وتحقق تكاملية التعليم بما أن البوصلة الموجهة واحدة والعقل المفكر في اتجاه السمت نفسه ، كما يمكن تطبيق الأمر نفسه في المؤسسات الثقافية ، والأمر ذاته فيما يتعلق بمؤسسات التجارة بأشكالها وفروعها ، فكم يمكن أن نوفر على الدولة في مثل هكذا عمليات دمج من نفقات نحن في أمس الحاجة إليها في ظل هذه الظروف ؟ وبذلك تكون تلك المؤسسات ( مستودعات توفير ، لا خزانات ثروة مهدورة ) تحت تشعب التعددية والتقسيمات الإدارية التي تزيد من عدد المسميات الوظيفية ، وتقلل من عدد الفاعلية والتأثير في كثير من مفاصل العمل الذي غالباً ما يتضارب بسبب الخلط أحياناً بين المهام ، أو تداخل المسؤوليات بعضها ببعض ، مما يؤدي إلى روتين المعاملات وتعطل المؤسسة ودورانها في إطار جمود الروتين ، و عطالة المسميات الوظيفية في تعددها وقلة الفائدة من إنتاجيتها الحقيقية ، وفي دمج الاتحاد النسائي ضمن إطار وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل خير دليل ومثال من تجربتنا المحلية على ضرورة ذلك التوجه ، وكل ما يحتاجه الأمر هو إعادة هيكلة تلك المؤسسات وفق قوانين تنظر بعين الحرص والمسؤولية الوطنية والأخلاقية إلى مصلحة الوطن في هذا الواقع الذي نعيشه ، فكم من الوقود يهدر لسيارات محملة على مؤسسات الدولة ، وأكثر استخدامها في أغراض خارج إطار العمل المؤسساتي الذي وجدت من أجل خدمته .
إننا بحاجة إلى الكيف في الأداء الإداري ، لا إلى كثرة الأعداد المصنفة وفق مسميات وتصنيفات إدارية الغرض منها زيادة عدد الكراسي ، وتقليل الحركة خارج إطار التوقيع والأختام على المعاملات الورقية ، ولا يقلل من هيبة المسؤول و ــ المسؤول لغةً من سأل ـــ وفي السؤال خير وسيلة للوصول إلى الحقيقة ، ومعرفة واقع الحال من خلال الاحتكاك المباشر بمعاناة المواطن اليومية بعيداً عن الاكتفاء بما ينقل إليه عبر وسائل قد تحجب الوقائع ، وتغيير في طبيعة الأحداث زيادةً أو نقصاً أو تحويراً وفق ما يخدم مصالحها الضيقة ، ويحقق إرضاء لجهة أو منفعة شخصية خاصة على حساب العام والشامل ، كما لا يضر المسؤول وجوده بين الناس طالما أنه يشاركهم الهواء نفسه والماء ذاته مع فارق النوع والجودة ربما ، وما أحوجنا إلى مسؤول يركب السرفيس ، ويعاني ما يعانيه المواطن من ازدحامات خانقة في باصات النقل مثلما نحن بحاجة إلى الخبز والهواء والماء على أنه أولوية من أولويات العيش واستمرار الحياة .