أحاول اليوم وبطريقة “الخطف خلفا ً ” أن استعيد صورة أبي في الماضي البعيد بملامحه الهادئة ونظرته الفلسفية الحكيمة للحياة المعيشية والذي كانت تكسو وجهه مسحة من الرضا بعد تأمين مؤونة البيت، فهناك شيء ضروري وحاسم يدفعني لاستذكار كلماته كلما هبت ريح الشمال منذرة بقدوم الشتاء ” إن حضر الخبز والمازوت والزيت أمنت مؤونة البيت”.
فهذا الثلاثي يشكل انقطاعه ثالوثا ً مرعباً للجميع ، يجعلهم يجوبون متاهة تأمين الدفء والمونة بداية الفصل مستسلمين مكرهين لبرد فصل لم يعد مرغوبا ً به لكثرة أعبائه وأزماته التي لا تأتي فرادى… متطلبات انقرضت بتغيير في نمط الحياة وأخرى اختلفت معاييرها ، جعلتهم يعيشون كل يوم بيومه .
فمادتا الزيت والمازوت تعتبران بمفهوم العامة معيارين لقهر الهموم وبحضورهما يسجلون انتصاراً في معركة ضارية فهما “نجوم البيت ” لما يحملان من رمزية ينعكس غلاؤهما سلباً على كامل المواد الأخرى ويشكل فقدانهما صورا ً للمعاناة الفعلية ، إذ يرتبط وجودهما بمفهوم البركة وخاصة زيت الزيتون والذي كان يسمى “الزيت الحلو” برائحته الزكية التي تملأ المنزل وبندرته وغلائه فقدت الطبخة السورية نكهتها الخاصة بعد أن خالطتها زيوت لانعرف مصدرها مما أضعف الشهية باضمحلال القدرة على شرائه والتي دقت أول مسمار في أسفين الرفاهية ..
رفاهية اختفت باختفاء الزيت والوقود ، ما دفع الكثيرين للعودة إلى نار الحطب كصديق لبيئتهم التي تنشغل فيها العائلات السورية بصنع المكدوس والمربيات مع “موقدة” أو “كانون” ولربما يأتي يوم يصنعون خبزهم بيدهم بعد أن خفّت جودته وقل وزنه، وحتى ظهور منقذ غائب سيعيشون على أمل إضعاف شهيتهم كمحاولة أولية للحصول على الشيء الأهم بإعدام الأقل أهمية ربما يشكل ذلك حلا ً ناجعا ً للأزمات الملاصقة للحياة الجديدة..
عفاف حلاس