لم تكن تصدق أنها عائدة مع زوجها وابنتها ، إلى بيتهم بعد سبع سنوات من مغادرته ، تمنت لو تسرع الحافلة أكثر ..الشوق يسبقها ، تطفر دمعتان كبيرتان من عينيها ، تبللان خديها الورديتين، تمسح خديها بمنديل ورقي .. وتتأمل الحقول الخضراء الواسعة بمحاذاة الطريق .
ثلاثون سنة أمضتها في ذلك البيت،منذ تزوجت ابن الجيران .
عندما لاحت عن بعيد شعرت أن عمرا ً جديدا ً يكتب لها حمص … ياحمص، يامدينتي الغالية .. أية وحوش بشرية باعدت بيني وبينك .. وحوش تسللت في غفلة من الزمن تحمل البارود والسواطير ، تريد أن تذبح الورد المعرش في الحدائق وتقطع الشجر ..وتهدم الحجر ..
حمص ، يامدينتي الغالية ، كيف ذهبت سبع سنوات من عمري وأنا بعيدة عنك.. حاولوا العبث بشعرك ، سرقوا جدائلك .. لكنهم انكفؤوا مهزومين أمام عنفوان حجارتك وأمواج عاصيك .. هل أعتذر منك ياسيدتي أم أنت تعتذرين ؟! .
هاقد جئت إليك .. اليوم أدركت ماالذي عناه الشاعر وهو ينشد:
/ عد بي إلى حمص ولو حشو الكفن
واهتف أتيت بعاثر مردود / .
عندما تركوا المنزل ، ذلك اليوم، شعرت أن قلبها يكاد أن يتوقف .. تكاد تختنق ..
« إلى أين ؟! « سألت زوجها
« إلى لبنان …»
« ولماذا إلى لبنان ؟! «
« لاتسألي … لاوقت للأسئلة …!!»
وقال بغضب ممزوج بالخوف :
« الإرهابيون صاروا على السطح … » لم يكمل الكلام فالبقية معروفة .
ثمة مسلحون ملتحون أقرب إلى الأشباح منهم إلى البشر، يسيطرون على الحارة .. يطلقون القذائف ..والرصاص … ليمت من يمت .. وعندما لايجدون هدفا ً واضحا ً لهم … يصوبون رصاصهم باتجاه سرب الحمام المتجمع على مئذنة الجامع .. يطير بعض الحمام .. يسقط بعضه .. يتناثر ريشه في الهواء ، وابتهاجا ً بذلك « يطلقون زخات من الرصاص ..!!».
-«أمي .. ياأمي .. تحرش بي واحد منهم ..كانت نظراته مخيفة.. وكان يهمس بأذن رجل آخر كان معه … ويقهقهان .. إني خائفة ياأمي ربما يخطفوني كما فعلوا مع خديجة …!!» .
– « لاتقولي ذلك ..!! « ردت أم فاتن برعب .
الليلة الماضية لم ينم أحد في الحارة ، خرج بعض الناس إلى الشرفات يكبرون ..ويدقون على الطناجر والأدوات المنزلية ..!!
-» أنت وأسرتك لم تلتزموا بالأوامر .. لم تفعلوا ما أمرناكم به .. أنتم كفرة ..!!».
يرد أبو فاتن بهدوء على الصبي الملتحي :
« بالله عليك .. قل لماذا نفعل ذلك ؟!!»
رمقه أبو فاتن بنظرة ثاقبة وقال :
« لاحول ولاقوة إلا بالله العظيم ..!!».
غادر الصبي الملتحي وهو يقول:
«سنجعلك تندم ..!!».
قبيل الفجر .. تسلل أبو فاتن وزوجته وابنته إلى خارج الحارة ..
في المخيم ، كانت الحياة أشد قسوة وتعتيرا ً ، من جحيم إلى جحيم .. ياربي ماالذي حصل … تقول أم فاتن .. عين حاسد أصابتنا .. أين كنا وأين صرنا ؟!!.
كان على أبي فاتن أن يملأ كل يوم اثنين عدة استمارات قبل أن يتسلم حصته من السلة الغذائية.
« شحادون نحن .. شحادون .. « يردد الرجال والنساء وهم يتزاحمون حول الشاحنة التي تأتيهم بالمساعدات الغذائية .
« ليتنا متنا في سورية .. ولم نأت إلى هنا .. « يقول أبو فاتن وهو يبوح مافي صدره أمام زوجته وابنته .
« يرمون لنا الخبز ….كلماتهم فيها إهانة واستخفاف بنا .. »
« أم فاتن ..أم فاتن .. هل نمت ؟! يقولون إن حمص صارت آمنة .. ويمكننا أن نعود إلى بيتنا ..المسلحون خرجوا مهزومين .
تنتفض أم فاتن من فراشها :
«بالله عليك .. هل هذا صحيح ؟!!»
« أي والله .. يقولون ذلك .. ذلك مؤكد ..!!».
« آه ياأبا فاتن ..» تقول والدموع تنسكب من عينيها
« أخشى أن أموت بعيدا ً عن حمص … آه ياحمص … الدبلان .. العاصي ..الحميدية ..القلعة جارتنا ..!! «
وجد أبو فاتن أن عليه أن يقول شيئا ً ما فهو أيضاً يعشق تراب حمص .. أزقة الورشة وباب التركمان وحيي بني السباعي والأربعين ..
قال:
« كنت لا أجد الوقت لأتناول الطعام من كثرة الزبائن .. من الصباح إلى المساء في دكاني المتواضع .. كان الخير وافرا ً .. كنا نعيش بأمان .. فما الذي حصل؟!!».
أم فاتن ..يا أم فاتن ..هل نمت ؟!
« لا .. أسمعك !!»
هل تذكرين اسم الأسرة اللبنانية التي أقامت عند أهلك منذ كنا صغاراً .. يوم جاء اللبنانيون إلى حمص من الحرب الأهلية ؟!!»
« لا أذكر ..كنت صغيرة ؟!!»
« أذكر جيداً أن الحارة كانت تطعمهم وتأويهم مجاناً .. ولكن لم نسألهم عن عنوانهم هنا .. ولا من أية مدينة في لبنان !!»
ثمة ريح تهز الخيمة الصغيرة .
« أم فاتن .. يا أم فاتن .. قومي .. ساعديني علينا أن نثبت أوتاد الخيمة .. تكاد أن تسقط .. »
هذه هي حمص .. هذه هي المصفاة على يسارنا ..
تلوح القلعة من بعيد … هواء حمص .. ليس مثله هواء .. يقولون .
يدق القلب بقوة .. الناس يملؤون الشوارع وكذلك السيارات .
« هنا آخر موقف .. نحن بجانب القلعة »
ينزلون بسرعة يشكرون السائق ..
هذا بيتنا .. أتربة وحجارة في المدخل .. أبواب مكسورة ..
سنعيد كل شيء كما كان .. ثمة جيران يرحبون بهم .. ويخبرونهم أن عليهم أن يراجعوا البلدية من أجل معاملة التعويض ..
تبكي أم فاتن … تبكي فاتن .. هذه القلعة كأن حجارتها ترحب بنا .
« صار لنا بيت .. مساء الخير أيتها القلعة !!»
ولكن هذه الدموع ليست أبداً مثل الدموع التي ذرفناها عندما غادرنا البيت قبل سبع سنوات.
عيسى إسماعيل
المزيد...