ربما لا يخفى على من يعيش عصر التقنية بكل سرعتها وتسارعها في هذا الزمن الجنوني ما أفرزته تلك النقلة النوعية من وسائل قرّبت البعيد ، وحققت اللا ممكن بأسرع وقت وأقل جهد ، وأدنى تكلفة ، وهي بلا شك من نعم العلم التي كان الإنسان سبباً في ابتكارها مثلما كان الإنسان الغاية فيها والهدف ، وهو سلوك لا بدَّ أن يحمل مقصد الخير، وأن يكون توجهه في تحقيق مزيد من راحة الإنسان ورفاهيته ، وفي ظل هذا التوجه ، وتلك القصدية تبدو الأمور من مستلزمات الحياة المعاصرة بما أفرزته طبيعة الحياة بإيقاعها السريع الذي يفرض أنماطاً من السلوك ربما ما كانت لتتواجد لولا هذه النمطية في التعاملات التي غالباً ما تتخذ شكل القولبة والجمود ، ولعلَّ ما يحدث من اتصال وتواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي من أنماط وأشكال مختلفة على تلك الوسائل من واتس آب وانستغرام وماسنجر و و و الخ تجعل المتأمل في تلك الأنماط السلوكية يقف منها موقف الحذر بما غيَّرت هذه الوسائل من شكل العلاقات الإنسانية ، وبما أوجدته من روابط جديدة عبر روابطها المستحدثة ، إذ نجد من تلك الأنماط أنها حدَّتْ كثيراً من تلك العلاقات الاجتماعية التي ما كانت تتمُّ إلا بالمقابلة والحضور الشخصي ، فيما نجد اليوم أنَّ واجب التعزية ربَّما ينقضي برسالة عبر الجوال ، أو بمسج عبر وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي ، ولا يكون السبب غالباً البعد أو تعذُّر الحضور، بل هي نتيجة التعود والسلوكيات الجديدة التي أحدثتها قنوات التواصل الاجتماعي ، والأمر نفسه يُقال في جميع المناسبات الاجتماعية على اختلاف حالاتها المفرحة منها والمحزنة ، وإلى هذا الحدِّ ربّما يبدو الأمر مقبولاً إلى حدٍّ ما ، لكن ما لا يمكن التغافل عنه ، ويجدر التنبه إليه ، والتنبيه عليه هو أننا في ظل هذه الوسائل أصبحنا نعيش في ظل واقع يُقطِّع أكثر مما يوصل ، ويبعد أكثر مما يقرب ، فقد راحت هذه الوسائل تُنحّي اللغة أداة التواصل الاجتماعي ، ووسيلة التقارب والتلاقي بين البشر ، وقد تحوّلت أصوات ابن جني التي يُعبّر بها كل قوم عن أغراضهم بفعل هذه الوسائل إلى مايُسمَّى بالرموز التعبيرية ، فتقتصر الكلمات على تلك الأيقونات التعبيرية لتوصيل الفكرة المقصودة إلى الشخص المرسَل إليه ، وفي أحايين كثيرة أصبحت الرسوم والفيديوهات من أكثر التعابير استخداماً عبر وسائل التواصل الاجتماعي هذه إلى درجة أن الكلمات أصبحت غير ذات أهمية فيها .
ما دفعني إلى تقديم ما ذكرت دعوة من صديق باعدت الظروف بيننا بسبب ما مرت به بلدنا الحبيبة من حرب ظالمة ، وكل ما كان في هذا اللقاء هو أنني تعرفت إلى بيته الجديد حيث يسكن ، فيما كانت الجلسة ( وتسيّة ) ــ وهو مصدر صناعي مشتق من الواتس آب ــ بامتياز كنا خمسة أشخاص بوجودي أنا الضيف ، وكل ما كان بعد السلام ، وترحيب الأهل أن الشاب والصبية أخبراني عن كيفية الاستفادة من الواتس آب في الاتصال الهاتفي ، و قد فعّلا لي شبكة المنزل على جوالي ، فيما كان الأب يوتس لابنه الذي يُؤدّي خدمة العلم بينما كانت الزوجة تتبادل الأخبار مع صديقات لها ، وهكذا انتهت الزيارة ، وودعّت صديقي ، وهو يقول لي : سنبقى على تواصل ، وأشار إلى الجوال ، وهو يعني الواتس آب .
عدت إلى بيتي لأجد المنظر نفسه ، فكل واحد من أفراد الأسرة يوتس على ليلاه ، فيما وجدتني وحيداً أكتب هذه الزاوية التي أفدت منها بزيارة صديق لم أره منذ سنوات ، وكانت الجلسة جلسةً وتسيَّةً عرَّفتني كثيراً على مزايا جديدة ، كما اطَّلعت عبر الشبكة على غير خبر من بلاد الله الواسعة ، ولكنَّني لم أعرف شيئاً عن ظروف صديقي الذي زرته ، كما لم يتسنَ لي أن أعرف كم يدفع أجرة للبيت الذي يستأجر.
فهل هذه الوسائل للتواصل الاجتماعي حقًّاً أم أنّها وسائل للتقاطع الاجتماعي ، أم أننا نحن الذين لا نعرف سُبلَ التَّعامل مع منجزات العلم والحضارة ؟
د. وليد العرفي