كتبت الطالبة الجامعية “تغريد”، رسالة جوابيّة، إلى صديقتها الجامعية “غروب”، الغالية على قلبها، التي تركت أرض الوطن مع ثلّة منْ أفراد عائلتها، وتوجّهوا مُرْغمِين، منذ اندلاع الحرب الكونيّة الظالمة على “سوريانا” الأم، إلى بلدٍ عربيٍّ شقيق:
صديقتي وأختي “غروب” .. قرأتُ مضمون رسالتك، تمعّنت بما حملتْه من أخبار، فيها السّار، وفيها ما أقلقني وأزْعجني؛ تقولين:
(تركتُ الجامعة يا “تغريد” بدواعي النّزوح الاضطراري، لم تسنح الظروف بالتحاقي بأيّة جامعة، لأنّ الدراسة هنا، “في هذا البلد المضيف”، تحتاج لمبالغ طائلة، إضافة لشروط بالغة التّعقيد، برغم أننا بيَّنا لهم، أنّنا من الأشقّاء السوريين المُهجَّرين، جرّاء القصف الصاروخي، ومدافع جهنّم، والسيّارات المفخخة، والأحزمة النّاسفة، التي يفجّرها أناس، لا علاقة لهم بالإنسانيّة، لا منْ قريب ولا منْ بعيد؛ والقيّمون على زعامة الدّولة الشقيقة، أبدوا تعاطفهم الشفوي، حول حجم معاناتنا القاسِية، وظروفنا الصّعبة، ومع ذلك، لم يوافقوا على دخولي أيَّاً من جامعاتهم، ولا دخول غيري من المُهَجَّرين! أتساءل، كيف استطاع الإرهابُ الأسود التسلّل إلى بلدنا الغالي، زارِعاً الموت الزّؤام، بكلّ المطارح والساحات؛ حتى رياض الأطفال، والمدارس، والجامعات، ودور العبادة، من كنائسَ ومساجدَ، والأسواق الشعبية وغير الشعبية، وعمّال النظافة، وسيارات الإسعاف، والحدائق العامّة، لم تسلم من إفرازات حقدهم، وحَصائِل عقولهم الظلامية)..
(حين أخبرتِني، أنّك لم تنتسبي لأيّة جامعة – علماً أنّكِ كنتِ هنا بالجامعة منْ أوائل الطلاب، تألمتُ، نظرتُ إلى السماء، لم أرَ نجماً يتلألأ، انقطع غناءُ العصافير، غابت من مُهَجِ الحياة فوانيسُ الفرح! أنا لا أصدّق حتّى اللحظة، أنك حقّاً هجرت مُدرّجات الجامعة؛ وأنك مُرْغَمَةً، غُيّبتِ عن تلقّي العلم، كنتُ متيقّنة أنك ستحارِبين طواحين الهواء، وأظفارَ المستحيل، لمواصلة تحصيلك العلمي، لأنني أعرف وَلَعَك بالكتاب والتعلّم، ومدى غرامك بالدفاتر والأقلام والأدوات الهندسية والمحاضرات، واختصاص الهندسة تحديداً، ثم هل نسيتِ كلماتك، ونحن ننتحِي بركنٍ منْ أركانِ الجامعة، نأكل ممَّا حملناه من عرائس الزّعتر الحلبي والمناقيش، بأنك ستتابعين تحصيلك العلمي، وستصبحين مستقبلاً، مهندسة معمارية “قدّ الدنيا”! أم أنّ هذه الأمنيات الملوّنة، صارت حرثاً في بحرٍ متلاطمٍ من الآهات والعراقيل! أيُعقل أنكِ تركت مقاعد العلم، لتقفي بالمطبخ، لتعلّمك أمّك فنون الطهي بأنواعه، وبذا تذوب شمعة الطموح لديك، وأنت تحدّقين في الفراغ، يمضغك المجهول، يعصرك الضَّنَى! أيُعقَل أنك لم تستطيعي التوصّل لوساطةٍ ما، تقرّبك من مدرّجات الجامعة، خاصّة وأنك صِرتِ على أبواب التخرّج! أخاف على مستقبلك من الضياع، أستغرب قراراتٍ غريبة من البلد المُضِيف، تقودك لكهوف الحياة، حيث لا شموع ولا شموخ، وتهدم ما بُنِيَ منْ أعمدة الدّراسة! يا عزيزتي: تَرْكُ الجامعة، ومقاعد العلم، خطيئة كبرى، لا مجال لمحوِ آثارها المُدمّرة مستقبلاً؛ واعلمي أنّ الحرب الظالمة، ستضعُ أوْزَارَها قريباً، هناك دلائل ومؤشّرات مُطَمْئِنَة، ولذا لا بدّ منْ قطع دابرِ الغياب والهجرة، والعودة حالاً لأرض الوطن، حتى لا تضيع عليك فرصة، هي أغلى من الذّهب: “فرصة متابعة السنة الجامعية الأخيرة، التي تقودك لِنيل شهادة التخرّج، وهناك مراسيم حكومية جيّدة، كلّها لخدمة الطلبة المُستنْفِذين”! واعلمي يا غاليتي، أنَّ المرأة هي نصف أيّ مجتمع، فهل ينهض مجتمعٌ ما بنصفٍ مشلُول؟! عودي لِجامعتك، فَقيمتك العليا، تكمن في قوّة العلم الذي تحُوزِينَه، هو سلاحك الأمْضَى، بوجه عاديات الزّمن وعواصفه! أتعرفين ما الذي يُجمّلُ الفتاة يا عزيزتي؟ إنه العلم المُسَيَّج بالأخلاق الفاضلة، وهما معاً بمنزلة العِقد النّظِيم، الذي تتزيّنين به بين الأناسِيّ، فتبدين حينها أكثرَ منْ ملكة جمال، وأبهى منْ عروس فاتنة، وأنت – ما شاء الله – تحوزِين المِيزَتين كلتيهما، وما أظنّك بِغياب عنْ ذلك كلّه! أخيراً، أرجوك أنْ تفكري بالعودة سريعاً لربوع الوطن، على جناح يَمامَة، خوفاً منْ أنْ يزحف نحوك العَدَمُ القاسِي، وأنْ تستوطنَ الصحراء ربيعَ مستقبلك، المثل يقول: “مَنْ لم يكنْ له نَظَرٌ بعيد، يكنْ له حُزنٌ قريب”، أنا بانتظار رسالتك الهاتفية، التي ستثلج قلبي بِتفارِيحِها وأخبارها السارّة، بالعودة المباركة، لكِ كلّ الأمنيات بمستقبلٍ زَاهرٍ وَضِيء)!
وجيه حسن