كثيرة هي المفردات التي تمرّ بحياتنا منذ وعي الطفولة حتى بلوغ مابلغناه، بيد أنّنا في الغالب لا نُدرك بعض الدّلالات إلاّ إذا ابتعدْنا عن ذلك الزمن، بهذا القدر أو ذاك، شريطة أن يكون ذلك مقرونا بتغيّرات في العمق، في الثقافة، و التعليم، وفي نشر المعلومات العصريّة المُواكِبة، أمّا المجتمعات التي لاتصيبها تلك الهزّات، ولا تلك التغيّرات فقد تظلّ قرونا في مكانها تجترّ ماوصلها دون نقاش.
ذات صباح من تلك الصباحات البعيدة جدا في الزمن، أفقْنا في تلك القرية على نبأ يتداوله الناس، وهو أن ابنة غزّول الصغيرة قد ( لطَشها جنيّ)، فأصبحت وفمها يكاد يقبّل أذنها، أعوذ بالله، ماهذا،؟!! الرّغبة حتى التي لاتخلو من خوف في مشاهدة ذلك المنظر، كانت شديدة بحجم ماهو أكبر ممّا وراء التلّ الغربي الذي كنت أعدّه أكبر مكان وصلتُ إليه، بيت غزّول قريب من بيت أحد أعمامي، وقفتُ بشكل مُوارِب قبالة ذلك البيت الصغير ، شبه المهدّم، أقدّر أنّ عمري كان في الخامسة، انفرج الباب قليلا فلمحتُ ذلك الفم الذي يكاد يقترب من الأذن، وجنّ جنوني، وأسلمْتُ ساقيّ للريح، وقلبي يخفق، كلّ الأشياء المُشوَّهة مخيفة،
مثل هذا الذي يُداوى الآن على أيدي أطبّاء مختصّين، ويزول غالبا دون أن يترك أيّ أثر،.. كانوا يُداوونه بضرب المكان الأعوج بقفا الحذاء، ويقوم من يزعم أنّه شيخ، يضربه وهو يهمهم بكلمات لانعرف ماهي، وإنّما مهمّتها أن تطرد ذلك الأثر الذي تركه الجنيّ الذي (لطَشَها)، وغالبا مايترك آثارا تظلّ ترافق صاحبها طوال عمره، ولكثرة ماكانوا يتحدّثون عن الجانّ، كنّا نعبر أزقّة تلك القرية حين يقترب المساء ونحن مذعورون من أن يخرج علينا أحد «بسم الله الرحمن الرحيم»، من أيّ زاوية،فيكون مالاتُحمَد عُقباه، فنجري في الزّواريب المظلمة مسرعين لنصل إلى البيت آمنين.
ذات مساء جلسنا بين يدي جدتي أمّ سليمان، وقد عمّرت طويلا، وفي تلك الليالي كانت الحكايات وحدها هي التي تلوّن الزمان والمكان، فلا كهرباء، ولا تلفزيون، ولا مذياع، هذه الأشياء لم تكن معروفة آنذاك، الحكاية وحدها التي قد تتكرّر مئات المرّات كانت جسرنا لعبور تلك المخاضات، حكايات عن علاء الدين، والشاطر حسن، والعنزة العنوزيّة، والغولة، تُعاد على مسامعنا، وما أدري كيف كنّا ندهش ذلك التكرار، ربّما لم نستنكره لأنّ ( التكرار) كان محيطا بنا من كلّ صوب، الفصول، والعمل، والناس الذين نعرفهم، والأرض المحيطة بنا، والنّجوم اللآّمعة مساء، والخوف من الإقطاعي والدّرَكي.
ذات مساء وكان الفصل خريفا، تحلّقنا حول جدتي أم سليمان، وقبل أن تبدأ بالحكاية، نبّهت أحد الموجودين أن يقصّ أظافره بعيدا عن أواني الطعام، أو عن الطعام، لأنّ الظفر إذا ابتلعناه فإنّه ينمو في البطن، ويكبر، وقد يشقّ البطن، وما من شيء يذيبه إلاّ أكل الجَبَس( البطيخ الأحمر)، وما أدري كيف توهّمت أنّني قد ابتلعت ذلك الظفر، وكان العشاء شوربة عدس، ولم أنم بسهولة لأنّ عليّ أن أنتظر حتى يكون موسم الجَبَس!!
تُرى أهي ذكريات أم ذاكرة؟!! أيّا كانت فتلك كانت أيام أجيال عبرناها ونحن نمشي على شفْرة قاطعة لاترحم، لم يبق منها غير تداعيات التذكّر الآليّ، وبعض مفاتيح رؤى العصر الذي وصلنا إليه، إنّ ماأرقنه الآن هو مجرّد شاهد، كيلا يأتي عصر تمّحى فيه حتى الملامح التي كنّا نشكو منها…
عبد الكريم النّاعم