الزمن يعود إلى منتصف خمسينات القرن الماضي، ولا أستطيع تحديده، وإنْ كنتُ واثقاً من مُجريات ماسأقوله، وأنا صادق فيه.
ربطتْني صداقة مع الشاعر المتميّز موريس قبق ، لاأذكر مَن كان سبب تعارفنا فيها، وعلى الرّغم ممّا بيننا من اختلاف في الرؤى الأيديولوجيّة، فقد حافظ كلانا على أن لايكون الاختلاف فيها سببا يقطع بيننا، وفي تلك الأزمنة كانت الانتماءات الأيديولوجيّة تلعب دوراً كبيراً في التقارب أو التّباعد، فقد كنتُ عروبيّا، وحدويّاً، تقدّميّا، اشتراكيّا، ولم يكنْ لموريس، كما قدّم نفسه أيّ انتماء سياسيّ، بيد أنّه، كما بدا لي ، كان متعاطفا إلى حدّ ما مع الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي كان ملاحَقا في تلك الحقبة، بسبب اغتيال العقيد عدنان المالكي، وهي قضيّة شائكة ، رغم ثبوت الأدلّة في أنّ ثمّة من وجّه بهذا الاغتيال، وقد حَمَّل السوريون القوميّون أحد قادتهم هذه المسؤوليّة، وقالوا إنّه تصرّف بشكل فرديّ، أقول هذا لأنّ هذا الحزب،في اشتداد الحرب على سوريّة، أثبت أنّه حزب طليعيّ، وطنيّ، وقف منافحا ضدّ المشروع الصهيو أمريكي الأعرابي.
هذه الإضاءة كان لابدّ منها لتوضيح أبعاد ما وراء الفكرة ، أو الكلمة التي تصدر عن صاحبها، وكنّا متشدّدين، بحقّ، في مسألة الصراع الطبقي، وكانت فترة ازدهار المدّ الفكري الماركسي، الذي تبيّن فيما بعد أنّ قوّته وجماهيريته كانت ترشح من حضور « الاتحاد السوفياتي» آنذاك.
في بيت موريس كان أحد اللقاءات، وكان الشاعر المعروف المرحوم أحمد دحبور، وهو أصغر منّا بسنوات، ولكنّه كان يُلازم هذه الجلسات، وكانت بينه وبين موريس صداقة متينة، وذات خصوصيّة، وقد حفظ ذلك الشاعر أحمد دحبور بعد وفاة موريس، وجمع عددا من قصائده غير المنشورة، ونشرها، وموريس لم يطبع إلاّ مجموعة « الحُبّ واللاّهوت» وقد تركت أصداء شعريّة إيجابيّة، وصمتَ بعد ذلك، فقد أخذتْه متطلّبات الحياة..
ذات جلسة في بيت موريس، وكان معنا أحمد دحبور، وكنّا في مثل هذه الجلسات نقرأ ماكتبناه من شعر،.. في هذه الجلسة، قرأتُ قصيدة في أحد أبياتها:» زوجةُ الفلاّح في قصْر الأفندي بعضُ أزهار الشتاءِ»، وكان الانحياز للفقراء علامة من علامات تلك المرحلة، لدى الغالبيّة من الشعراء العرب، الحدائيّين، وحين انتقلنا لمناقشة ماجاء في القصيدة، وتلك كانت عادتنا في معظم اللقاءات الأدبيّة، ارتسمت ضحكة عريضة على وجه موريس، وقال:» لماذا تستغرب أن تكون زوجة الفلاّح في قصر الأفندي بعض أزهار الشتاء، أنا لاأرى فيها أيّ غضاضة، هي علاقة بين رجل وامرأة»، وجنّ جنوني، ورجّحتُ أنّه قال ذلك من باب المُناكفة، والمُنافرة،فضبطت نفسي، وكان ممّا قلت:» تكون العلاقة كما ذكرتَ حين تكون علاقة حبّ، أمّا أن تكون المرأة سُلعة ، فتُغتصَب المرأة في القصر، وتسكت على افتراسها، لأنّها لو باحت بشيء من ذلك، فسيكون مصيرها القتل، تُقتَل والجميع يعلم أنّها لاتستطيع الدفاع عن نفسها، وإنْ صمتت حملت عار هذا الاغتصاب مدى عمرها»،؟!!
الذي لاريب في تخميني له أن المرحوم موريس كان يعبّر عن معارضته لهذا التيار الذي شاع آنذاك في الشعر العربي.
رحم الله موريس قبق فقد كان شاعراً متميّزا، والرحمة لروح الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور، الذي كتب عنّي في الأرض المحتلّة كتابة هي منشورة في كتاب تكريمي الصادر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق، وفيها الشيء الكثير من الحميميّة، والصدق…
عبد الكريم النّاعم
المزيد...