قصة قصيرة… غضبان ..!

الوقت يكادُ يقترب منْ منتصف الليل، مصابيح الشّارع الحزين، تعانق أرصفة الفقر النّائمة، أجنحة الظلام غطّت مساحات الدّروب والعيون، الأب «غضبان» لا يزال ساهراً، يفكر بتلك الهياكل الصُّفر، بهاتيك الوجوه التي خلّفها وراءه هناك بالوطن الأمّ! بالاغتراب، يمضي الوقت بطيئاً، تمرُّ الدقائق كالسّنين، توقف عن الكلام الداخلي، الأرصفة وحدَها تكلمت، أردفَ لنفسه: «أنا اكتئابيّ المزاج، للأرصفة وحدها أسوقُ هذه الحقيقة، دونَ تحفّظ»! بعنفوان حَجَرِيّ، ردّ أحد الأرصفة:
– علينا أنْ نصمد، الذي لا يصمد، لا يكون جديراً بالحياة بَتّاً.
كعنكبوتٍ كان الصّمت يتجوّل بالمدينة، يتحرّك ببطء طاغٍ، ينسج خارِطة للوهم، يقطع أسلاك الهاتف والكهرباء، يجحظُ بعينيه الثّعلبيّتين شارات المرور غير عابئٍ بها .. الشّوارع، الأرصفة، الأبنية، السيارات، تتدافع أمام عينيه، الأجسام تتزاحم، كتلُ غيمٍ صفراء، تتبارَى بلا مغزى ولا نظام.. بلحظة ما، أغلق «غضبان» نافذتَي وجهه، فوّهتَي أذنيه، مَغارَتَي أنفه، خرج منْ ثيابه، لا يدري لماذا، بلْ يدري لماذا! حلقُه جفَّ منْ مُلوحةِ الغربة ولُزوجتها وكُرْبَتِها، عقله أضحى مُهْتاجَاً مِنْ مشهد التفجير الإرهابي بعاصمة وطنه على الشّاشة.. كطفلٍ ضائعٍ، راح يطوف أرْكان المدينة، بدرجة عالية من التأسِّي.. لم يرَ وجوهاً متحرّكة، رأى عشرات الأرْصفة، تغطّ بنومٍ مُعتكِر، تحلم بالفجر، ورائعة النّهار، وانحسار زوابع الإرهاب.. مَجّ شيئاً منْ سيجارةٍ كانت مُعْتقَلة بين إصبعيه، خاطب ذاته القلقة المُتوفّزة:
«أنتَ يا غضبان غامضٌ على نحوٍ خاصّ، بداخلك شيءٌ غريبٌ، لا أعرف كيف أصفُه: السّكينة، العذوبة، الغضب، اليأس، الوجع، الحيرة، الـ .. الـ .. أنت غريبٌ بعض الشّيء أو أكثره، بهذه الغرابة، يكمنُ سرٌّ يجعلك واحداً من الذين .. كيف أقول الآن؟ لا أدري.. ربّما.. لكنْ لندعْ هذا جانباً»!
باللحظة ذاتها، عبرت رأسَه آلافُ القطارات، حاملة بِعرَباتِها كتبَ الوقت النائم؛ بألمٍ تنهّد، للتوّ مضغَ عقله هذه الكلمات: «لماذا نعتبر الوقت، بشرقنا العربيّ، مسألة ثانويّة»؟ بِسرّه تضاحك منْ بلادةِ السؤال وسذاجته، بل منْ بلاهته، حاول ترتيبَ مشاعره وأفكاره، التي استُثِيرت بدرجات متفاوتة، خلال ساعات الليل، باتت الآن بحاجة ماسّة لِلاسترخاء، لكنه لم يفلح! بِغرف جسده البارد، استقبلَه ألفُ فندقٍ وفندق، أرصفة مدينته تنعم الليلة وكلّ ليلة ببعض الأحلام «الرَّغيدة» الجوْفاء! مِنْ حوله، كان الفضاء مُسَرْبَلاً بضوءٍ مريحٍ غير باهر، غير ضبابيّ، قالت نفسه: (بعضُ الذين اغتربُوا، لا يستوْعبون منْ مساحة الاغتراب، سوى وزن «الليرة الذهبيّة»، وقيمتها، وشكلها)! عادَ ومجَّ شيئاً من سيجارةٍ، لا تزال مُعْتَقَلة بين إصبعيه! بأسفٍ بالغ هزّ رأسه، تذكّر أباه الذي تمورُ أعماقه بمشاعر ودّ ونقاء، تتجاوز ذاته، يسمو بهذه المشاعر لِمستوى الخوف من أيّ نزعةٍ ماديّةٍ، قد تخالجُها، فتنَأى بها عنِ العَفاف والرّجولة والبساطة! بعقلانيةٍ نَدَهَ قلبه: «الدمّ لا يتحوّلُ إلى يُوْد؛ أبي طوال عمره، كان رجل عفّة ووطنية وثبات، وأنا مثله، مَنْ شابَهَ أباهُ، فما ظلمَ»! بتؤدةٍ، كانت شوارع المدينة تحمله، تمشي به، الوقت يمضي ثقيلاً كأنّه صخرة، عناقيد الظلام لا تزال تتأبّط فانوسَ الوهم النّائم، «غضبان» كان يتهادَى مدفُوعاً بنسمةٍ خفيفة البرودة، تفتح بِعالمه الداخليّ ألفَ نافذة للأمل والذّكرى.
للتوّ دَهَمَهُ صوتٌ منْ أعمقِ أعماقه: ( ليس ثمّة ما يَحُولُ بينك وبين التحدّي، حياتك مُفعمَةٌ بجروح راعِفة، اليوم؟ «أوديب» كان مَلِكاً، ألم يكنْ قادراً على تملّك العَظَمَة؟ فقأ عينَه بِمحْضِ إرادته، مُفضّلاً درب العتمة، على البقاء بوحلِ الخطيئة).
انسلّت خصلة منْ أشعة الفجر، تمدّدتْ فوق الأرْصفة، منْ بعدُ دبّتِ الحياة بمفاصل المدينة! «غضبان» أحسَّ تحت جلده دبيباً حلواً، تذكّر الوجوه الصُّفر هناك، خلف بوابات الوجع والانتظار، هو بالغربة لأجلهم، قال مخاطباً الدّبيب النّاعم الحلو، الذي سالَ تحتَ الجلد: «كلّنا نريد أنْ نعيش، كلّنا يدفع ضريبة العيش، صعوبات الحياة تعلّم الإنسان كيف يجب أنْ يعيش، أنْ يتحمّل، لا يخفض رأسَه مهما تعذّب»! توقّف قليلاً عن الكلام الداخليّ، تكلّمت الأرْصفة والأسواق وأقدام المارّة وحدَها بكلّ ما فيها من صبرٍ وعزمٍ… بطريقِ عودته للبيت، راحَ «غضبان»، على مهلٍ، يرتّب أفكارَهُ المُشوّشَة، كأنَّ ما جرَى، كان مَناماً، انتهى الآن..
وجيه حسن

المزيد...
آخر الأخبار
في ختام ورشة “واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر ‏والصغيرة”.. الجلالي: الحكومة تسعى لتنظيم هذه... سورية: النهج العدائي للولايات المتحدة الأمريكية سيأخذ العالم إلى خطر اندلاع حرب نووية يدفع ثمنها الج... فرز الخريجين الأوائل من المعاهد التقانية إلى عدد من الجهات العامة أفكار وطروحات متعددة حول تعديل قانون الشركات في جلسة حوارية بغرفة تجارة حمص بسبب الأحوال الجوية… إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه الملاحة البحرية مديرية الآثار والمتاحف تنفي ما يتم تداوله عبر وسائل الإعلام حول اكتشاف أبجدية جديدة في تل أم المرا ب... رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من القطاعات القبض على مروج مخـدرات بحمص ومصادرة أكثر من 11 كغ من الحشيش و 10740 حبة مخـدرة "محامو الدولة "حماة المال العام يطالبون بالمساواة شراء  الألبسة والأحذية الشتوية عبء إضافي على المواطنين... 400ألف ليرة وأكثر  سعر الجاكيت وأسواق الب...