عرفناه غنيّاً في أبدان الفقراء، نقيّاً في دمائهم، فنادمناه في السرّاء والضرّاء، ولا نزال ننادمه، نتلذّذ بمرآه، وتناوله، ومضْغِه وهضْمِه، بل لا نزال نقرأ في شكله الدائري المُونِق، شهوتنا الدّافقة، إلى أطعمةٍ كثيرة، تكون إلى ِجانبه، أو يكون هو إلى ِجانبها، لا فرق، أمير مُكلّل بتاجٍ أبيض، أو أسمر، الأمرُ سيّان! الرّغيف، حين يتأمّنُ، هو الفرح المضيء، خلال ساعات اليوم بِطوله، بل هو ضحكة الأمطار، والحبّ الوفير، الذي يرقى لكلّ سماء، ولكلّ أرض.. هو الجسرُ الذي يمتدّ من إغفاءة الماضي، إلى بوّابة الآتي.. هو الفجر الوضّاء، الذي انتشرت على ضفافه، وأطراف عينيه خيولُ الغابة العذراء.. للرغّيف الجميل السّاخن، لعيونه المُحْمرّة جماهيرُ غفيرة، وأوطانٌ بتلاوين الأحلام.. لعينيه القرمزيّتين تدور الأرض، ويسعى السّاعون، ليل نهار.. لعينيه، يتعب الفلّاحون، له، لطلّته البَهيّة، تُغنّي الطيور والعصافير والجماهير، لأجله يغنّي الجائعون، يصفّقون لحضوره، فهذا الحضور الآسِر، يثلج القلوب، يسعد النفوس.. بعد تناوله ومضْغِه، ينام الكلّ في هناءة وسرور، لا مثيل لهما.. سلاماً أيّها الخبز الحافي، حضورك البَهيّ، يجمّل الحياة، هل منْ أحد بهذه المعمورة يستغني عنْ ملاقاتك، والسّعي الحثيث لتأمينك، فإذا حضرْتَ، كأنّ نصف جوع المعدة، قد تمّ السيطرة عليه.. السؤال الأبرز مُفادُه: هل كلّ الناس يستطيعون تأمين «ربطة الخبز»، لعيالهم، لعائلاتهم، لأطفالهم، لمرضاهم؟ أم أنّ الحصول على ربطة خبز، لهذه العائلة أو تلك، هو بمثابة الحلم؟ أرأيتهم ذات مرّة، وهم يتدافعون أمام هذا المخبز أو ذاك، للحصول على تلك «الرّبطة» الأمل؟ وكثيراً ما تقع مَشادّات بين الأناسِيّ، وربّما تتطوّر للضّرب، لأنّ أحدهم تجاوزَ الدّور، والصفّ، ونظام الواقفين باحترام، ضارباً بتصرّفه المشين عرض الحيطان كلّها، غير عابىء بكلّ الواقفين، كأنّه لفظاظته، وشحوب ضميره، وضآلة تربيته، لا يرى كلّ هؤلاء، لا يرى حبّات العرق المُنداحَة من جبين هذا العاجز، أو تلك المرأة، أو هذا المُعاق، أو هذا المتقاعد السّبعيني، بل هو بتصرّفه الأرْعن، الأنانيّ، المُتطاوِس، يعبّر عن سلوك غير حضاري، ولو كان بِتلافيف دماغه المِعْوجّ ذرّة من وعي، لما أقدم على مثل هذه الرُّعُونة، وهذا العمل غير الحميد.. على مقلبٍ آخر، حين تصل ربطة الخبز بين يديك، تفرد مبتهجاً أرغفتَها السّاخنة لتبريدها، قرب جدار، على جريدة، على كيس «جنفيص»، على سرج درّاجة، على صندوق سيّارة مغلق، حينها وعندها، تُفاجَأ بأنَّ عدداً من الأرْغفة، لا ترتاح لِمرآه، لأنه ليس على شاكلة القمر البدر، وليس دائرياً، بل تصلك بعض الأرْغفة على شاكلة الأشكال الهندسية، ما بين دائري، وشبه منحرف، ومستطيل، ناهيك عن أنّ بعض الأرْغفة تصلك غير ناضجة، أي يظهر فيها نتفٌ من ليونة العجين بوضوح، كأنه لم تصلها نارُ الفرن ولهيبه بتاتاً.. لكنّ للأمانة، ورغم الحرب الضّروس، التي وقعت على وطننا العزيز، آلمَت، أوجعَت، قهرَت، فإنّ رغيف الخبز لم ينقطع وجودُه، كما أنّ هناك أشياء ومواد ضرورية وأساسيّة لكلّ عائلة، كذلك لم تنقطع، ولم تختفِ، برغم أنّ بعض التجّار والسّماسرة والفَسَدَة الأقزام، قد أساؤوا لأهل بلدهم ووطنهم، تآمروا مع الأغْراب الغِربان، لزيادة معاناة المواطنين ، أصحاب الدّخل المحدود – المهدود، وكانوا بتصرّفهم هذا، يعبّرون عن نقصٍ ضافٍ «واسع»، في إدراكهم وأخلاقهم ,الأهمّ بالنسبة إليهم جَمعُ المال، وتهرِيمُه، واكتنازُه، لا يهمّهم من أيّ مصدر جاء، متجاهلين كلّ الأعراف والمبادىء والمنظومة القيميّة، وروح القانون.. الأسئلة المُلِحّة: كيف يُلجَم هؤلاء وأشباههم؟ مَنِ الذي يوقفهم عند حدودهم، بأيام الحرب، وسواها؟ مَنْ يحاسبُهم؟ أم أنَّ «قانون المحاسبة»، أضحى بزمن الحرب القذرة، طيَّ النسيان، وإذا سألتَ أحدَهم: لماذا لا يُطبّق هذا القانون الصّارم؟ أجابك بقلّة فهم، وبغشاوةٍ على عقله وعينيه: هل هناك من محاسبة في زمن الحروب؟ كُنْ صاحياً يا صاحبي.. بعدما تضع الحرب الضّروس أوْزارَها، حينها «لكلِّ حادث حديث».. قال الرّجل السائل: لم تعجبني ذرّة واحدة من حديثه وإجابته، عندها أخذتُ طريقي مُمْتعِضاً، وفي الحلقِ غصّة سفرْجليّة…
وجيه حسن