باكراً أخذتْني الأحلام بعيداً، منذ أن بدأت أعي شيئا من الحياة في ذلك الرّيف، وحين أرسلني والدي رحمه الله إلى حمص للدراسة بدأت تتّسع آفاق الصفحات والكتب، وكنتُ حين أرى واحداً من الأسماء التي يُشار إليها بالبنان، لاسيّما حين يكون شاعراً،.. كنتُ أغبطه، وأحترمه عن بُعد، وما أدري ما إذا كانت نفسي تحدّثني بأن أكون واحداً من هذا الرّعيل.
في زمن كنتُ فيه أحلم بالشعر، أذكر أنّي رأيتُ مراد السباعي قرب المُتحف الحالي لحمص، وكانت دارا للبلديّة، دلّني صديق عليه، وكان يعبُر ماشيا بقامته المستقيمة، وشعره الطويل الأشقر المتدلّي نحو الخلف، وعلى رأسه ( بيريه)، وظلّت هذه ( البيريه) غطاء رأسه طوال حياته ، ومرّت سنوات طويلة، وأصبحتُ واحداً من الذين يعملون في سدانة الحرف، وأصبح لاتحاد الكتاب فرع في حمص، وذات تشكيل للمكتب الفرعي المذكور، صدر قرار بتشكيله على الشكل التالي : مراد السباعي رئيسا، عبد الكريم النّاعم أمينا للسرّ، عدنان الدّاعوق أمينا للصندوق، وهكذا بدأتُ أتعرّف أكثر على أبي فريد، الصامت إلاّ عند الضرورة، المبتسم أبدا، الذي لايشكو رغم أنّه لم يكن في وضع مالي مريح.
أعذروني لهذا الاستطراد، ذات نشاط في مقرّ المركز الثقافيّ القديم حضرت مسرحيّة لمراد السباعي، وهي « معركة في طاحون»، وكان من أبرز ممثّليها المرحومان ماهر عيون السود، ومحمود طليمات، وكان مراد بين الحاضرين.
بحكم العمل في مكتب فرعيّ واحد بدأت تتكشّف بعض الجوانب التي نجهلها عن مراد السباعي، فهو من الرّعيل الأوّل الذي انحاز للأفكار التقدّميّة الاشتراكيّة، وكان تقدّميّا، ولكنّه لم ينتسب لأيّ حزب من أحزاب ذلك الزمان، على كثرتها، وكانت مسرحياته في أيام الاحتلال الفرنسي لاتوارب في جهرها بانتمائه الوطنيّ، وعلمت أنّ إحدى مسرحياته، وهي لشيللر قد استغرق عرضها ثماني ساعات، والنّاس جالسون.
في إحدى الجلسات، وكنتُ ، في الغالب أقدّم الأساتذة والزملاء من على منبر الاتحاد، .. قال لي مبتسماً:» أغبطك على طلاقة التقديم، وتسلسل الأفكار»، علما أنّه ماكان يتلكّأ حين يقدّم أحد المدعوّين.
لسبب ما، غيّرنا مقرّ فرع الاتحاد، وتمّ استئجار مكتب في حي الحمرا، تماما على حدود الملعب البلديّ الشرقيّة، وكان المقرّ جميلا وهادئا، بيد أنّه بعيد جدا عن منتصف المدينة، وبقينا فيه فترة من الزمن، وفي هذا المكان كانت فرصة مراد السباعي في كتابة كتابه الهام» شيء من حياتي»، وهو سيرة لحياته، وشاهد على زمنه، وأرسل هذا الكتاب لطباعته في الاتحاد بدمشق، وعلى الرغم من أنّ السّيرة الذاتيّة من أهمّ الكتب التي يسعى الغربيّون لاقتنائها، فإنّ المكتب التنفيذي آنذاك في دمشق، لم يكتفِ بالاعتذار عن نشرها، بل اتّخذ قرارا بعدم نشر أيّ سيرة ذاتيّة، خيفة من أن يتأبّط الكثيرون سيَرهم ويقدّمونها للاتّحاد، ذلك كان تبريرهم، وحين طبع مراد هذا الكتاب على نفقته، رغم أنّه، كما ذكرنا، لم يكن من أهل اليسار المادّي،.. ترك أصداء طيّبة، ومميّزة، والكتاب شاهد، بتفصيلاته، على مرحلة هامّة من حياة ذلك الزمن.
لقد كتب أبو فريد رحمه الله المسرحيّة، والقصّة القصيرة، وكان أحد شيوخها المؤسِّسين في سوريّة، وكتب السّيرة التي ذكرناها.
كثيرون لايعرفون أنّ مراد السباعي كان يعزف على آلة العود، وأنّه كان مُغرَما بصيد السمك بالسنّارة يوم كانت مياه العاصي نظيفة جارية، وأنّ له خبرة بطيور الحمام وأنواعها.
ذات عام كرّم المكتب الفرعيّ مراد السباعي، واستطاع المكتب إشراك عدد من المؤسّسات والشركات في هذا التكريم.
رحم الله أبا فريد فهو أحد أعلام حمص المميَّزين في عالم القصّة، ومؤسّس المسرح فيها…
عبد الكريم النّاعم
المزيد...