إنَّ الحديثَ عن الفساد يُعدُّ حديثاً من نوافل القول ، ومن المُضحك المُبكي في زمنٍ لم يعدْ فيه جدوى للبكاء الذي فقد فيه الدّمع دلالتَهُ ، وصار مجانياً بفعل ما اعتادت عليه العين من مشاهد ، وما ترسَّخ في القلب من غصّات بفعل الحرب التي عشنا سعيرها ، واكتوينا وما زلنا بنارها ، جماعات وأفراداً ومؤسسات ، تلك الحرب التي أُريدَ لها أن تأكل الأخضر واليابس لولا حكمة قائد آمن بعدالة القضية ، وجيش ناضل ، وشعب صبر فظفر ، وقد كشفت الأحداث التي مرَّتْ ببلدنا العزيزة أنها كانت أزمة أخلاق على المستويات كافة … فمن أزمة أخلاق على المستويين : الغربي والعربي إلى أزمة أخلاقية على مستوى ضعاف النفوس من مستخدمي الداخل لمصالح الخارج المرتهن بدوره إلى مصالح أكبر من دائرة عقله وفهمه وتفكيره ، وفي غياب هذا الرادع الأخلاقي نجد الفساد في أبشع صوره يتجلّى في استغلال المنصب لجني مكاسب ذاتية ، وتكديس مزيد من الأرباح ، كأن هؤلاء لم يعتبروا ممّا يحدث ، ولن يعتبروا بأن القبر هو المآل ، وأن التراب هو المصير ، ، ومن هنا تتبدَّى خطورة استمرار هذه الآفة التي تستشري في الجسد الوطني ، فالسرطان الذي لا يستأصل العضو المصاب به سيكون خطراً على الجسد كله ، وربَّما هلك وأهلك الجسم معه .
وأنت تتأمل كل يوم ما يُكتب فيه وعنه تكاد تصاب بالدهشة من كثرة الأحداث والوقائع التي تجرُّ بعضها بعضاً ، وأمام هذا السيل الجارف من أشكاله وتصنيفاته تجد نفسك مُجبراً على بلع الموس على الحدّين كما يقول المثل ، والسبب أنَّ ثمة سؤالاً ربما لن تجد الإجابة عنه مهما فتّشت أو قلَّبت كلَّ المعاجم اللغوية ، وإذا كان ليس من المستغرب أن يكون هناك فساد ، فإن الذي يدعوك للحيرة هو أن كثيرين يتحدّثون عن الفساد وضرورة محاربته هم من يمارسون الفساد ، فترى في كلامهم ما يدعوك للتفاؤل !!! ، ومن هنا تتبدى الأزمة الكبرى في الأخلاق التي وصل إليها ــ مع الأسف ــ كثير ممن يُنظّرون عن الفساد ، وهم أكثر الناس ممارسةً له في أفعالهم وتصرفاتهم ، وبعضهم استغلوا المواقع والمناصب التي احتلوها على غير وجه حق ، ولا عن كفاءة ، أو اقتدار وتمييز في ممارسة المزيد من سلوكيات الفساد والإفساد على مختلف الأصعدة ، وفي مجالات تمكّنهم وتمكينهم المختلفة حتى بدت الظاهرة عادية والممارسة حق مشروع لهم ، بل بدأنا نسمع بمصطلحات تحاول أن تبرر الفساد بفساد التسمية على المسمى ، وتسويغ تلك المصطلحات في ظل غياب المحاسبة ، وتسليط الضوء على نقاط الخلل التي بدت كالسوس الذي ينخر جسد كثير من مؤسساتنا ، وفي هذا السياق قد لا تستغرب تنظير الفاسد عن الفساد ، لأنَّ الأمور تُعرَف بنقائضها ، فالكاذب يتحدَّث عن الصدق ، واللص يحدّثك عن الأمانة ، وهكذا تكثر المتناقضات في زمن وواقع يبدو فيه المتناقض هو السائد ، والمنسجم المتناسق هو الشاذّ ، هذا الزمن الذي أستميح الشاعر العراقي قوله لأصفه به :
قتلتْنا يا مولايَ الرّدةْ
قتلتْنا أنَّ الواحدَ منَّا
يحملُ في الدَّاخلِ ضدَّهْ
ومن هنا فلا بدَّ أن يكون إعادة البناء في هيكلة الإدارات ، وتوصيف المرض لمعرفة علاجه ، ويكون ذلك بتطبيق مبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب بعيداً عن المساومة والمحاصصة ، والرغبات الشخصية ، ومحدودية النظرة التي لا ترى في غير ذاتها مصلحة وطنية مهمة ، ولا تبتعد عن ذاتها لتحقيق مآربها الشخصية .
د. وليد العرفي