قبل رحيله بأسبوعين لم يستطع الشاعر الراحل سليمان العيسى الرّد على مكالمات الأصدقاء ،وهو يرقد في مشفى الأسد الجامعي ،بل تولت الرّد زوجته الدكتورة ملكة أبيض .وهكذا وبكلمات هادئة أفادتني أنّ أبا معن لا يستطيع الرّد ،شاكرة اهتمامي ولهفتي كي أطمئن عنه .
رحم الله الشاعر سليمان العيسى ..ورحم الله الدكتورة ملكة أبيض التي رحلت قبل اسبوعين ،بعد ست سنوات على رحيل رفيق عمرها سليمان العيسى .
عندما تعرّف سليمان العيسى ،الشاب المتخرج حديثاً من دار المعلمين العليا في بغداد ،والمدرس للغة العربية في ثانويات حلب ،إلى الطالبة الفتاة الحلبية ملكة أبيض ،رأى فيها الفتاة التي يحلم بها .ولم يخب ظنه .فنالت ملكة الثانوية بتفوق –في خمسينيات القرن الماضي ،ثم الجامعية ثم الدكتوراه من بروكسل ..وعملت أستاذة جامعية لسنوات عديدة في جامعتي دمشق وتعز في اليمن الشقيق .
كان سليمان يقطن في غرفة متواضعة في حي المحافظة في حلب عندما اقترن بملكة أبيض .وكانت قصائده بدأت تنتشر ليس في سورية فحسب بل في الوطن العربي .أن تكون المرأة زوجة لشاعر معناه أن تتفهم مزاجه وقلقه عند ولادة كل قصيدة ،حماسته وشروده وكثرة الأصدقاء والزوار ،واستيقاظه المبكر للكتابة أو القراءة ..هذا ما كانت تردده المرحومة ملكة أبيض وهي تتحدث عن زوجها الشاعر العيسى .
في حلب كان سليمان –تقول ملكة –يشعر أنّه قريب من لواء اسكندرون .وكان هذا الشعور يمنحه القوة والعزيمة والتفاؤل ،فاللواء مسقط رأسه وملعب فتوته .
وبعد خمسة عشر عاماً انتقل للاستقرار في دمشق .وكان قد أمضى فيها مرحلة دراسته الثانوية وتعرفه بالارسوزي والدكتور وهيب الغانم وغيرهما .
تكررت زياراتي للشاعر الراحل وللدكتورة ملكة في منزلهما المتواضع في أبي رمانة .. وعندما تحسنت أحواله المادية ،لم يغير العيسى منزله الصغير ولم يغير أسلوب حياته ..وكانت ملكة زوجة ورفيقة وأماً مثالية فقد أنجبت :معن وغيلات وبادية ،وقد نالوا شهادات عليا في الطب والهندسة .
وعلى الرغم من أحاديثه الكثيرة أمامي عن الشعر والحياة الاجتماعية والسياسية ،غير أنّه لم يعطني سوى حواراً واحداً نشر عام 1998 في صحف العروبة والثورة ونشرت (سانا )مقتطفات منه .وعندما كنت أسجل في دفتر صغير كل ما أراه مهماً وغير معروف في سيرته كنت أتلوه على مسامعه .وهكذا فقد شعرت بالأسف وكذلك الدكتورة ملكة ،لأّن الشاعر رحل قبل صدور كتابي «ثلاثة شعراء –أحاديث وذكريات «الذي تحدثت فيه عنه وعن الجواهري والحارة .
«لا أعرف ما الذي كان سيحصل لي ،لو لم أتزوج سليمان …هكذا كانت ملكة تردد .وكانت أمنيتها الأخيرة أن ترقد بجانب سليمان في مقبرة «الشيخ رسلان «بدمشق .لكن للأسف ماتت في كندا أثناء زيارتها لأبنائها .عشرون مؤلفاً في التربية والترجمة عن الفرنسية منها سلسلة الأعمال لكتاب جزائريين كتبوا بالفرنسية وذلك بالاشتراك مع زوجها الشاعر الكبير .
«ويبقى الشعر ديوان العرب «تردد ملكة هذه المقولة ..وتضيف وهاكم المثال :سليمان العيسى وملكة أبيض ….سوف يتذكر الناس لزمن طويل قادم الشاعر العيسى وعندما يذكرون ملكة سيذكرونها لأنها زوجته ..وليس لأنها أستاذة وباحثة في التربية …!!
في صيف العام العاشر من هذا القرن زرتهما :سليمان وملكه في مصيف «عمار الحصن »…حيث اعتادا قضاء أسبوع أو أكثر كل صيف ..وكان لقائي الأخير بهما .
رحل سليمان ..ورحلت ملكة …لكن المبدعون لا يموتون أبداً …هم شعلة ثقافية وفكر وطني ….لا تنطفئ أبداً.لروحهما السلام ….!!
عيسى إسماعيل