نحن في بداية الثمانينات من القرن الماضي، فجأة أصيب أخي المرحوم عيسى بألم يعتصر صدره، ويتصبّب عرقه بغزارة، لم أعد أذكر بمَن اتّصلت فاتّصل بدوره بدكتور القلب الشهير في حمص عاطف أتاسي، وأعطاه العنوان، ولم أكن قد عرفته من قبل، رغم تنقّلاتي بين أطبّاء القلب، ولم يطل الوقت فقد وصل بسيارته، وكنتُ ارقب مجيئه على جمر من القلق، نزل من السيّارة ومعه رجلان آخران ينتظران منه أن يذهب معهما لرؤية مريض آخر،فارع الطول، مع بياض في الوجه أقرب إلى الشّقرة، معتدل القامة، بهيّ الطّلعة، وللوهلة الأولى بعد السلام شعرتُ أنّ كلّ ثانية في وقته تنتظر الأخرى، حمل حقيبته ودللْته على الغرفة التي فيها أخي،
كنّا ثلاث عائلات نسكن في هذه الشقّة، والدايّ رحمهما الله، وأخي عيسى وأسرته، وأنا في القسم الجنوبيّ منها، وقد أقمتُ حائطاً بيني وبين الآخرين يؤمّن لي بعض الهدوء اللآّزم لحياتي،
فور الانتهاء من فحصه نفض يديه بقوّة، وبتأفّف وتعجّب قال :» ماهذا ؟! جلطة وهو في الثلاثين من العمر؟! شيء لايكاد يُّصدّق»؟!!
رجوتُه أن يذهب معي إلى غرفتي لكتابة الدواء، وهي غرفة فيها سرير نومي، وقربه آلة تسجيل ماتكاد تتوقّف، ومكتبتي موزّعة على معظم جدران الغرفة، وفي الجهة الجنوبيّة منها ( صوفا)، وكرسيان من حديد، مجدول عليهما جدائل من البلاستيك، وعدد من الصور، اخترتها من المجلاّت، ملصوقة على الباب من جهة الدّاخل، فور دخولنا، ومصادفة كان شريط المسجّلة يبث كونشيرتو البيانو لشوبان، وفور جلوسه انتبه للموسيقى فقال لي:» هذا كونشيرتو البيانو لشوبان»، فأدركتُ أنّني امام مستمع نوعيّ للموسيقى الكلاسيكيّة، فأخرجتُ الشريط ووضعتُ شريطا للعود للعازف العراقيّ الشهير منير بشير، ولم يكن معروفا في سوريّة إلاّ لدى القليل من المهتمّين، سألته:» كيف قهوتك»؟ فالتفت إلى مَن معه وقال لهما بلطف: أنا منذ الصباح لم أرتح، من مريض لآخر، وأشعر أنّي أستطيع أن أشرب فنجان قهوة هنا في هذه الغرفة ، ومسح الغرفة بعينيه، فأجاباه لما أراد، وقال لي: دون سكّر، وحين وضعتُ القهوة أمامه أرهف السمع إلى مايُبثّ من المسجّلة، وسألني : مَن هذا؟ قلت:» هذا منير بشير عازف وموسيقار عراقي، أسّس مع أخيه الأكبر جميل بشير طريقة جديدة في العزف على آلة العود»، قال:» لم أسمع به من قبل»، قلت له:» غداً سيكون عندك هذا الشريط الذي تستمع إليه»، قال وهو يبتسم:» شكرا»، وظلّ يُرهف السّمع ويُنقّل عينيه في الغرفة المتواضعة، وطلب سيكارة فقدّمتها له، وأجال بصره مرّة أخرى، وقال لي بلهجة ودودة، مريحة، هذه الغرفة توحي بأنّ صاحبها عازب، وما أظنّك عازبا حتى الآن»؟، قلت:» عندي ( عِرّ) أولاد، ومنهم ثلاثة دخلوا مرحلة الشباب، هذه يادكتورنا الغالي بعض نواتج الزواج الباكر،جلس لمدّة ربع ساعة تقريبا، ونهض ليتابع مشواره في معالجة مرضاه، وما أكثرهم، خرجتُ قبله أدلّه على الطريق، إذ يصعب معرفته بسهولة إلاّ على ساكنيه، أو على مَن زارني أكثر من مرّة، وكان زوّاري كُثُر تلك الأيام، حين أصبحنا قرب باب الدّار، أخرجتُ محفظة النّقود، وقلت:» أؤمرْ يادكتور»، فأمسك بيدي وقال :» لاتشوّه الجلسة»، وأدار ظهره باتجاه السيارة، وغادر، في اليوم الثاني كان شريط منير بشير عنده، وبدأت بعدها بالتردّد على عيادته بين فترة وأخرى، ولم أكنْ قد اُصبت بذلك الاحتشاء، وما تلاه من عواقب، وعمليّات.
أذكر أنّني راجعتُه ذات مرّة، وعيادته لاتخلو من الازدحام، وبعد ان انتهى منّي طلب من الممرّضة فنجانين قهوة، قلت له معتذرا:» ومَرضاك»؟!، فقال :» أنا منذ أن أصحو لاعمل لي إلاّ مرضاي، ولا يأتيني في كلّ مرّة مَن أستطيع أن أشرب معه القهوة وأنا مرتاح»، وفي إحدى الزيارات أهداني كتاب « جماليات المكان» لباشلار، مصوّراً، وما زال الكتاب في مكتبتي.
الدكتور عاطف أتاسي، الطبيب ، الانسان، المثقّف، المحبّ للموسيقى الرّاقية، أمدّ الله في عمرك، وكثّر من أمثالك…
aaalnaem@gmail.com
عبد الكريم الناعم