حين يتقدّم بك العمر فلا شكّ أنّك سوف تعاني من سرعة استجابة الذّاكرة، لاسيّما في السنوات البعيدة، وقد تحرن هذه الذّاكرة فلاتستجيب، وهنا يُنصح بتركها بدلاً من عَصْرها، لأنّ ذلك، كما يقول العلم يُتلف خلاياها، إذ بعد هذا الحران لاتعرف كيف تقذف لك ماكنتَ تجهد في معرفته.
أردتُ الكتابة عمّا أنا بصدده، فاستعصى عليّ اسم معهد في حلب شاركتُ بدعوة منه في محاضرة، وحين يئست من تذكّر الاسم، راسلت المسرحي الحلبي الكبير، والباحث العميق عبد الفتّاح قلعه جي، فذكّرني بصيغة تساؤل عمّا إذا كان اسمه كذا، فاقتنعتُ بما ذكره.
معهد في حلب كان اسمه « معهد التّراث العلمي العربي»، على ذمّة ذاكرة أخينا أبي ياسر، دعاني للمشاركة في ندوة استمرّت لمدة يومين، هذا إنْ لم أخطئ في التقدير، وكانت الجلسات صباحيّة ومسائيّة، وقد اشترك فيها مدعوّون من ذوي الاهتمام بقضايا التّراث، يمثّلون المحافظات السوريّة، وقد اخترتُ موضوع « العتابا، أداء في سوريّة»، ولقد قسّمت الأداء إلى غربي يشمل كلّ ماهو غرب خطّ طريق دمشق حلب، وله ألوانه المتشابهة في الأداء، وشمالي يبدأ من شمال حماة حتى يصل تخوم حلب الريفيّة، وشرقي وتُغنّى فيه العتابا الشرقيّة بأداء خاص، شرقيّ حمص، وثمّة أداء خاص بها على ضفّتي الفرات، ويتقاطع في كثير منه مع طرق الأداء في العراق، وثمّة أداء ينفرد به أهلنا في جبل العرب، بيّنت هذا كلّه مشروحاً في محاضرة، وأعددت شريط كاسيت سجّلت فيه المقاطع بحيث حين أصل إلى الشاهد يكفي أن أضغط على زرّ المسجّلة فيسمع الحاضرون الشاهد المُعدّ، وقد كلّفني ذلك جهداً، في النّقل، وفي البحث، واعتمدت بذلك على مكتبتي الموسيقيّة التي تضمّ هذه الألوان، ولم أكن جديدا على هذا الموضوع، فأنا ابن هذه البيئات معرفة، وتدقيقا، ومحبّة، كما أنّني ابن فولكلور حمص، ورقصها الشيخاني، وسهراتها الجميلة، وأغانيها التي تُردَّد في كلّ سهرة،والتي ارتحلتْ مع ذلك الزمن، ونتيجة هذا الحبّ لكلّ مافيه من جمال وذوق، صُنِّفت في صفّ الذين يهمّهم أمر هذا التّراث.
حين جاء موعد إلقاء محاضرتي، وجلس في القاعة السادة المدعوّون، وكلّ يحمل باقة عطرة من ورود محافظته، فوجئت بعدم وجود مسجّلة في المعهد، وأُسقط في يدي، لأنّ سماع النّموذج جزء أساس في صميم المحاضرة، وارتبكت، فهم لم يبلّغوني بذلك وإلاّ كنت تداركت الأمر، وما أدري كيف أسعفني الحظّ بإحضار مسجّلة، لاأدري من أين جاؤوا بها، وألقيتُ محاضرتي، وقدّمت شواهدي المسجّلة لمطربين شعبيّين غير معروفين إلاّ في مناطقهم، وكلّهم يمتلكون أصواتا حنونة، ومعبّرة، تهزّ الأريحيّة حين سماعها.
انهيت المحاضرة فتقدّم منّي شاب لاأعرفه، وطلب منّي أن أعطيه شريط الكاسيت ليسجل نسخة عنه، فاعتذرت، وكرّر الطلب، فكرّرت الاعتذار بأنني لاأملك إلاّ هذه النّسخة، فأقسم إيماناً مغلَّظة أنّ الشريط سيكون بيدي صباح اليوم التالي.
هنا لابدّ من الاعتراف بأنّ من نقاط ضعفي أنّي أصدّق، أو أكاد، مَن يلحّ، ومَن يُبالغ، ربّما لأنّني أقيس الأمور على نفسي، وليس على تجاربي، ومعارفي النّظريّة.
في اليوم التالي لم يظهر صاحبي، ووقعت في حرج نفسي كبير، فالشريط جهد عشرات الساعات من الانتقاء، والنّقل، والمونتاج، وهذا كلّه أجريتُه بمفردي في مكتبتي، ووقعت في إرباك آخر هو ماذا أقول لمن سأتكلّم معه؟ هل أقول له حسن الظنّ ورّطني، سأبدو ساذجا، وشبه بدائيّ، سكتّ على مضض، وهاقدمضى على الحادثة قرابة أربعين عاما، وما زلتُ يعتريني الانفعال كلّما تذكّرت ذلك الشريط.
أنت يامَن أخذت هذا الشريط لن أسامحك، لأنّك أخذت جهدي، وكرّهتني بعض الصفات التي احملها حتى وإن كانت لاتوصف بالسوء.
الأمانة دِين يُدان به، ومن الأمانة الصدق……
عبد الكريم النّاعم