مرّ الشاعر أبو القاسم الشابي مروراً سريعاً في هذه الدنيا ،فلم يفسح له في العمر أكثر من ربع قرن ولكنه ترك في حياتنا بصمات خالدة .وأنا أرى أن بصماته الفنية الحياتية الخالدة تركزت في جانبين :في ديوانه الشعري الذي غنى فيه أغنيات الحياة ومنها أغنية –إرادة الحياة –التي رددناها منذ الصغر :
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بدّ أن يستجيب القدر
وفي كتابه الفريد –الخيال الشعري عند العرب –الذي تلوح خلفه ثقافة تراثية واسعة وثقافة غربية حديثة غنية ورؤية فلسفية ناضجة على الرغم من صغر سنه .فهو يرى أنّ الخيال ضروري للإنسان كالنور والهواء والماء والسماء ،ضروري لروح الإنسان ولقلبه ولعقله وشعوره مادامت الحياة حياة والإنسان إنساناً .فالخيال دافعه الطبع والغريزة الإنسانية الكامنة وراء الميول والرغبات .كما يرى –وهذه رؤية جديرة بالاهتمام ..أن الإنسان الأول كان يستعمل الخيال في جمله وتراكيبه استعمالاً حقيقياً مجازياً ،لأنه كان يردد صدى الأساطير ،فهو يقول :ماتت الريح ،وأقبل الليل لأنه كان يعتقد أن الريح قد ماتت حقاً وأن الليل قد أقبل حقاً ،لأن الإنسان الأول كان يؤمن أنّ الريح والليل إلهان من الآلهة القوية .
والخيال عند أبي القاسم الشابي ينقسم إلى قسمين :قسم اتخذه الإنسان ليتفهم ما في نفسه من معنى لا يفصح عنه الكلام المألوف ،وقسم اتخذه الإنسان ليتفهم به مظاهر الكون وتعابير الحياة يقول أبو القاسم الشابي «إن الخيال ينقسم إلى قسمين قسم اتخذه الإنسان لا للتفريق والتزويق ،ولكن ليتفهم من ورائه سرائر النفس ،وخفايا الوجود ،وهذا الخيال نلمح من خلفه ملامح الفلسفة وأسرة الفكر ،ونسمع من ورائه هدير الحياة الكبرى يدوي بكل عنف وشدة وهو هذا الفن الذي تندمج فيه الفلسفة بالشعر ،ويزدوج فيه الفكر بالخيال وقسم اتخذه الإنسان أولاً ليعبر به عن ذات نفسه حين لا يجد لها مساغاً في الحقيقة العادية ثم تطور هذا النوع مع الزمان فكان منه هذا النوع الذي نعرفه والذي ألفت فيه كتب البلاغة على اختلافها .
وقد بين أبو القاسم الشابي في كتابه هذا علاقة الخيال الشعري بالأساطير العربية وعلاقته بالطبيعة وبالمرأة مستشهداً بنماذج شعرية رائعة لشعراء عرب من عصور مختلفة كالأعشى وأبي تمام والبحتري وأبي نواس وغيرهم .
وأرى أن أهم فصل من فصول كتابه هو –الروح العربية –فقد رأى من خلال تحليله العميق أنّ الروح العربية خطابية مشتعلة لا تعرف الأناة في الفكر فضلاً عن الاستغراق فيه ،ومادية محضة لا تستطيع الإلمام بغير الظواهر مما يدعو إلى الاسترسال مع الخيال إلى أبعد شوط وأقصى مدى .
ونتيجة لهذه الروح نجد أن ما أنتجه الذهن العربي في مختلف عصوره كان على وتيرة واحدة ،ليس له من الخيال الشعري حظ ولا نصيب ،وأن الروح السائدة في ذلك هي النظرة القصيرة الساذجة التي لا تنفذ إلى جواهر الأشياء وصميم الحقائق ،وإنما همّها الانصراف إلى الشكل والوضع واللون والقالب فهي لا تتحدث عن الطبيعة إلاّ بألوانها وأشكالها ولا يهمها من المرأة إلا الجسد البادي ،وهي في القصة لا تتعرف إلى طبائع الإنسان وآلام البشر ،وفي الأساطير لا تعبّر عن فكر سام وخيال فياض ،وإنما هي أوهام بائسة وأنصاب جامدة .
إن كتاب الخيال الشعري عند العرب يتضمن كثيراً من الآراء النقدية الجريئة بالإضافة إلى كونه خطوة مبكرة على طريق الأدب المقارن من خلال مقارنته نماذج من الشعر العربي بمقتطفات من آداب الغرب ليبرهن على أنّ العرب تمسكوا بالصور المادية المحسوسة وجعلوها محور القول والتفكر في حين أوغل الغربيون فيما وراء الماديات .
المزيد...