تعتبر ملحمة جلجامش درة التاريخ الأدبي في حضارة وادي الرافدين و هي قصيدة شعرية طويلة مدونة بالخط المسماري و اللغة البابلية على اثني عشر رقيماً من الطين ،عثر على معظمها في مكتبة الملك آشور بانيبال في العاصمة نينوى و يعود كما يقال إن كتابتها على الرقم تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد و معروف أن ملحمة جلجامش نالت شهرة واسعة في الشرق القديم .إن بطل الملحمة شخصية تاريخية هو الملك السومري جلجامش الذي حكم في عام 2650 قبل الميلاد و كان ملكاً شجاعاً مما حمل الشعراء القدماء على تخليد ذكراه في هذه الملحمة الفريدة و يمكن تقسيم الملحمة إلى ثلاثة أقسام رئيسية الأول منها يدور حول الأعمال البطولية و رفيقه انكيدو القسم الثاني قصة الطوفان العظيم و حصول رجل الطوفان على الخلود أما القسم الثالث فيتعلق بمسألة الموت و العالم السفلي
لعل من أبرز الأسباب التي أكسبت الملحمة شهرة واسعة قديماً و حديثاً كون موضوعها إنسانيا محضاً مثل الإنسان و الطبيعة – الحب و المغامرة – الصداقة و الحرب و قد أمكن مزجها جميعا ببراعة متناهية لتكون خلفية لموضوع الملحمة الرئيسي ألا و هو « حقيقة الموت المطلق « إن الكفاح الشديد لبطل الملحمة من أجل تغيير مصيره الإنساني المحتوم عن طريق معرفة سر الخلود هو الهدف المنشود. إن مدى الملحمة و مجالها و قوتها الشعرية العارمة جعلتها تنال إعجاب الناس في كل العصور
و إذا كانت الملحمة قد انتهت نهاية محزنة خيبت آمال جلجامش فإنها من جهة أخرى لم تكن نهاية قاتمة شديدة القسوة و ذلك لأنها قدمت البديل فإذا كان الخلود أمراً مستحيلاً للإنسان لأن الآلهة استأثرت به منذ اللحظات الأولى للخليقة فباستطاعة جلجامش و أي إنسان آخر أن يخلد بأعماله و مآثره فيبقى ذكره ما بقي الدهر
و يحتوي الرقيم الأول على تفاصيل وافية عن سجايا البطل « جلجامش « و عن شجاعته الفائقة في الإقدام و المغامرة سواء في الجبال الشاهقة أو في البحور الواسعة « إنه البطل سليل الوركاء و الثور النطاح «
إنه المقدم في الطليعة
و هو كذلك في الخلف ليحمي أخواته و أقرانه
إنه المظلة العظمى حامي أتباعه من الرجال
إنه موجة الطوفان عاتية تحطم جدران الحجر و هو الذي فتح مجازات الجبال
و مثلما اتسم جلجامش بالشجاعة كذلك حباه الله بالحسن و الجمال و خصه إله الرعد بالبطولة و القوة البدنية الخارقة و نقرأ في الرقيم الأول من الملحمة أن أهل الوركاء لاذوا بالآلهة يتضرعون إليها كي تخلق رجلاً يكون نظيراً لجلجامش في البأس و قوة العقل و عندئذ يكون الاثنان في صراع مستديم لتهنأ المدينة بالسلام الاطمئنان
استجابت الآلهة لدعوات أهل الوركاء فخلقت الصنديد انكيدو الذي كان يجوب البراري مع الظباء و حمر الوحش و يأكل العشب و يتزاحم معها عند مورد الماء، لقد وهبته الآلهة شعراً كثاً يكسو كل جسمه و جعلت شعر رأسه طويلاً مثل شعر امرأة و له ضفائر على هيئة السنابل و ذات يوم أبصره الصياد و هو يرد الماء مع الظباء فذهب إلى أبيه و قص عليه قصة ذلك المخلوق الغريب الذي كان يحول دائما بينه و بين صيده لأن أنكيدو كان يخرب ما ينصب الصياد من شباك فنصح الأب فتاه أن يذهب إلى مدينة الوركاء و يقص على البطل جلجامش قصته، ذلك الرجل القوي المتوحش و يطلب منه أن يسلمه فتاة بغياً لكي يغوي بها انكيدو و تستدرجه إلى الوركاء و فعل الفتى ما أمره أبوه و أعطاه جلجامش الفتاة البغي فأخذها وراحا يترقبان عند مورد الماء و لما جاء أنكيدو إلى هناك مع الظباء كشفت له الفتاة عن مفاتن جسدها و سرعان ما انجذب أنكيدو و استجاب لإغرائها حتى أنه بقي معها ستة أيام و سبع ليال بعدها تذكر أنكيدو ألفة حيوان البرية و همّ بالعودة إلى حيث العشب و الظباء و حمر الوحش لكنه سرعان ما اكتشف أن أشياء كثيرة قد تغيرت في غضون الأيام القليلة الماضية ، إذ وجد أن حيوان البرية صار ينفر منه و يبتعد عنه كما وجد هو من جانبه ان قواه لم تعد كما كانت من قبل ،يقول النص :
و بعد أن شبع من مفاتنها
وجه وجهه إلى ألفة حيوان البرية
فما رأت الظباء أنكيدو حتى ولت هاربة
و هربت من قرية وحوش البرية
ذعر أنكيدو ووهنت قواه
خذلته ركبتاه لما أراد اللحاق بألفة من حيوان البرية
أضحى أنكيدو خائر القوى لا يطيق العدو كما كان يفعل من قبل لكنه صار فطناً واسع الحس و الفهم
و أخيراً لم يكن باستطاعة أنكيدو أن يفعل شيئاً سوى أن يرجع و يقعد عند قدمي الفتاة و يطيل النظر إلى وجهها عندئذ أدركت الفتاة أن أنكيدو قد استأنس و استسلم للأمر الواقع فعرضت عليه الذهاب إلى الوركاء معها حيث يقيم البطل جلجامش فقبل العرض و قال لها أنه متلهف لرؤيته و منازلته و في مدينة الوركاء كان ظهور الند المرتقب « أنكيدو « هاجساً أقض مضجع جلجامش نفسه. ففي ذات ليلة رأى جلجامش حلماً رأى فيه إحدى النجوم و هي تهوي إلى الأرض في مدينة الوركاء و أن أهل الوركاء تجمعوا حولها و راحوا يقبلونها و لما استفاق جلجامش من نومه ذهب إلى امه و قص عليها رؤياه فقالت له أمه إن غريما له سيظهر عما قريب و سيكون مماثلاً له في القوة و البأس لكنه سيصبح رفيق العمر الذي لا يخذله يلتقيان فيجري صراع بينهما ينتهي بصحبة و صداقة
تلاقيا في موضع سوق البلاد
سد أنكيدو باب البيت بقدميه
و منع جلجامش من الدخول إلى الفراش أمسك أحدهما بالآخر و هما متمرسان في الصراع
و تصارعا و خارا خوار ثورين و حشيين
حطما عمود الباب و اهتز الجدار
و في أحد الأيام كشف جلجامش لصديقه الذي صادقه بعد عراك عن رغبة شديدة في نفسه للسفر إلى غابة الأرز البعيدة
بعد تمنع وافق انكيدو على السفر معه ذهباً للبحث عن عشبة الخلود و التقى بعشتار التي أسرها جلجامش بجماله و بعد صراعات مريرة مع الوحوش و الغيلان يقتنع جلجامش أنه لن يقهر الموت و لن يحصل على الخلود لأن الموت حقيقة ملازمة للحياة و أنه نهاية لها، فهم جلجامش أنه مجرد انسان يعيش و يموت وأن طاقته و قدراته محدودة و أن ما يخلد الإنسان هوعمله و ابداعه و مواهبه
عبد الغني ملوك
المزيد...