1- احتجاج:
بعنف كان الموج محتجّاً، قوية تأتي دفعاته، تلطم وجوه الصّخور، المنتصبة بصمود على الشاطىء، تعود مُترهّلة بعد انكسارها هناك!
كان صيّادٌ يراقب باهتمام احتجاج الموج، باحثاً عن السّبب، محاوراً الموج أمامه:
-.. لماذا كلّ هذا العنف يا صديقي؟
أجابت موجة واعية، وهي بطريقها إلى صخرة قريبة:
– انظر وراءك أيها الصيّاد الماهر، ألم ترَ وتسمع تلك الفتاة الجالسة بِبطن سيارتها، وهي تعنّف امرأة عجوزاً إلى جانبها؟ بربّك، هل يصحّ عتابٌ على الشاطىء؟
كجوابٍ هزّ الصيّاد رأسه بالنفي…
ألقتِ الموجة هذه الكلمات العتابيّة، تكسّرت أضلاعها عند صخرة مُشرَئبّة، عندها حرّك الصيّاد رأسه ملتفتاً إلى الوراء!
2- نقيق قلب:
مساءً قبع داخل سيّارته، يسمع نقيق ضفادع في بحيرة قريبة، سيارات غزيرة تفوح منها روائح عطر باريسي، تمرّ أو تقف.. بصره يمتدّ للبعيد، يرى مصابيح المدينة متلألئة! من حوله تتهادى أصواتٌ فرحة لعشّاق كثيرين، كأنهم يقولون للبحيرة بصوتٍ متّحد: «حبّنا مبارك كما ماؤك الرّقراق»؛ أمّا القابع ببطن سيارته، فقد كانت مصابيح قلبه مطفأة، فالغربة اللزجة التهمت منه كلَّ المصابيح!
3- آلاف الأميال:
راقصاً يتهادَى موج البحر، الهواء الخفيف يتمايل طرباً، طائرة جميلة تغرّد، تحلّق بعدما انطلقت من سُجّادة المطار، باتجاهٍ ما، وأضواء متراقصة في «مدينة الألعاب»، التي دخلها يوماً مع أولاده، عاشقان تتعالى ضحكاتهما الرنانة، شارعان متعاكسان يتناجيان بهذا الجوّ الهادىء، أمّا هو، فقد جاور كلّ ذلك بمشاعره مجاورةً فيها التأسِّي، قائلاً: «كيف يبهجني كلُّ هذا، وبيني وبين زوجتي وأولادي الآنَ آلاف الأميال)؟!
4- ثلاثة مصابيح:
قرب البحيرة الجميلة، انتصب عامود كهربائي بثلاثة مصابيح، تجاوره شجرتان باسقتان، تضفيان على المكان جاذبية خاصة، تستمدّان الضّوء من تلك المصابيح..
ذات مرّة، طاف ولد شقيّ بتلك المصابيح، رماها بعدَة حصيات، انكسر المصباحان الأيمن والأيسر، على حين بقي المصباح الأوسط يسعلُ بضوءٍ غير كافٍ، على زجاجه ارتسمت علامات حزن واضح، وهو يتذكّر جارَيه العزيزين المكسورين، بينما الولد الشقيّ استمرّ يمارس (هوايته) البشعة!
5- العقوق:
من هناك.. من وراء المحيط، اتصل الولد الوحيد هاتفياً بأمّه الأرْمل، قائلاً بلا مبالاة: (لا حاجة لي بمنزلي الخاصّ الذي تعبتُ جداً للحصول عليه، وكذا لا حاجة لي بسيّارتي الخاصّة، التي كافحت طويلاً لتأمينها، أقول، عليك ببيعهما، تصرّفي بأموالهما كما تشائِين، أخبرك بأنني لنْ أعود لأرضِ الوطن، فقد قرّرت قضاء بقيّة عُمُري، مع الفتاة الشقراء، التي أحبّها قلبي .. أرجو ألاّ يزعجَكَ هذا الخبر…)، ثمَّ أطبق بوجه أمّه سمّاعة الهاتف!
6- دَحْدَحْ:
بمدينة الألعاب (دَحْدَح) الواقعة بأطراف تونس العاصمة، قرب بحيرة جميلة، سألني القطارُ المُزَرْكش:
(… أين صغيرُك الرائع، زارَني العام الماضي، كان طفلاً حلواً، مرِحاً، ذا كلامٍ عذب، كنت أتمنّى صداقته الدّائمة، أين هو الآن؟ متى يعود؟
سألتني الأرْجُوحة البيضاء:
(… منذ أشهر لم أرَ طفلك الحبيب، اشتقتُ إليه، إلى كلماته اللطيفة، التي تنسرب إلى شغافِ القلب، دون موانع، ولا جواز سفر.. متى ألقاه)؟
سألني الحصان الأصفر:
(…حين امتطى صهوَتي الصّيفَ الماضي، شعرتُ كأنّي حصانٌ عربيٌّ أصيل، همزتني نفسي للجموح والانطلاق، لكنّني خفتُ على قلبه الغضّ من أنْ يطير هلعاً، فاكتفيتُ بمداعبته، وترقيصه بكلّ هدوء، هل سيأتيني هذا الصيف)؟
سألتني سيّارة الإطفاء الحمراء:
(…ألا يزال هناك على الضفّة الأخرى؟ قل له على لسانِي: اشتقتُ إليه، إلى طفولته الرّيانة، التي تطفىء وجع الرّوح، بانتظار عودته على أحرَّ من الجمر …).
سألني المركبُ المائي:
«حين جرى بنا الماء، شعرتُ أنّ الفرح ينزُّ منْ عينيه، وأنّه لا شيء يدور بِخلده، سوى أنْ يكون مسروراً بجريان الماء وصوته، هل سيأتي عن قريب؟
أرجوك بلّغه أشواقي الطريّة، وقبلاتي النديّة..»!
وسألتني «مدينة الألعاب»:
«.. أوتذكر فرَحَ أبنائي وبناتي به؟ كان حلواً، خفيفاً، عذباً، بِعينيه الحلوتين، وحركاته المُحبّبة، قرأت فرح الأطفال السّعداء… متى أراه؟ متى ألقاه؟ متى يكون اجتماعنا المنتظر»؟
7- الأمّ الرؤُوم:
اليوم نهاية الأسبوع، الشوارع والمرابع، الحدائق والفنادق، كأنّها كلّها في عرسٍ صيفيّ، أمّا هذه الأمّ الرّؤوم، فقد كانت تدفع بتثاقلٍ واضحٍ عربة ولدها المُعاق – كعادتها كلَّ يوم- وليس بِعطلة نهاية الأسبوع فقط!
وجيه حسن
المزيد...