(حكايات في قصائد) هو الديوان الثاني للشاعر (عدنان جاسم الناعمة) بعد ديوانه (بيني وبين المها) وفيه يتابع الشاعر السير على نهج بذاته دون الخروج عليه حتى في قصيدة واحدة، فالشاعر ألزم نفسه بذلك، بل الأمر نتاج عفوي عن طبع الشاعر الذي يبدو شعره خاليا من الصنعة والتكلف.
( فقلت وخافقي قـد فرّ مني:
فديتك, أنت ملهمتي وعوني )
لقد اختار الشاعر أن يخلص لفن الغزل دون سواه من الفنون الشعرية التي عرفها الشعر العربي. علما أن الغزل كان من أبرز مقومات القصيدة العربية، حتى تلك التي تنطوي تحت باب المديح أو الفخر أو سواه من فنون القول الشعري، وذلك منذ (امرئ القيس) مرورا بـ(عمر بن أبي ربيعة) وصولا إلى (نزار قباني).
( جودي بوصلك يا مهاة فإنني
رجل إذا ما حبّ يصبح نيلا )
فما زالت الأنثى بجمالها وفتنتها قطبا مركزيا في دنيا الشعراء؛ حتى تطورت صورة المرأة بواقعها، وتعددت برمزيتها؛ حتى تحولت المرأة في الكثير من القصائد إلى منبع ثر للإلهام الشعري، وكائنا بشريا يتكامل معه الرجل، ومقياسا للجمال الإنساني في أبهى صوره وأرقاها.
ورغم تأثر الشاعر الواضح بالمذهب الرومانسي الذي نهض مع الشعر في مطلع القرن السابق، فإننا نجد أيضا تمسكه إلى حد ما بالنزعة الكلاسيكية التي تعود إلى عصر الإحياء وما قبله في العصرين العباسي والأموي، ليس على صعيد الوزن الخليلي فحسب، بل على صعيد الصورة الشعرية، وتركيب الجملة، والقاموس اللغوي؛ ورغم ذلك توخى الشاعر الابتعاد عن التراكيب المعقدة في الصورة، والوحشي من الألفاظ.
( أنت التي أعلنت حرباً دونها ضرب الحسام
وأنا الذي نكست رايات التسامح و الوئام )
ويحضر الشاعر في شعره كله، دون استعارة الأقنعة الفنية، فالقصائد جميعها تنطق صراحة بلسان الشاعر الذي لا يكتفي بالإعلان عن أسماء من يشبب بهن، بل يصرح باسمه أيضا، مؤكدا حضور التجربة الشخصية في شعره دون مواربة، وان قصائده في الكثير من جوانبها حكايات واقعية عايشها بفكره ومشاعره قبل أن يدون سطورها على صفحات كتبه، لهذا برز الخط الدرامي في أكثر من قصيدة.
( و هذا البوح ألقيه غداً فـي طيّ كتمان وإلا فامنحي أملاً.. وكوني رباب عدنان )
ولكن اسم المرأة يتبدل، بل ما أكثر أسماء المحبوبات المبثوثة في القصائد، فالشاعر العاشق لا يخلص لامرأة بذاتها، بل للحب المجرد في معناه الكبير الذي لا تستطيع امرأة واحدة اختصاره مهما كانت بارعة الحسن. لهذا يجنح الشاعر في الكثير من شعره نحو الغزل الصريح عكس شعراء الغزل العذري الذين عرف عنهم أنهم لم يقولوا الشعر في أكثر من امرأة واحدة.
( تلقني ألف مهاة.. أحترق مثل البخور
ألتصق فيك بغنج واشتياق وسـرور )
***
وثمة ملامح عامة أخرى- في قسم من قصائد الديوان- يحسن الإشارة إليها، لعل أهمها أن الشاعر يبدو في بعض القصائد معانيا آلام الحب، فثمة سهاد في الليل وهوان في النهار، وهذا شأن الكثير من العشاق على مر الزمان.
( بحبّك آه كم ألقى هواناً
و إيلاماً و سهداً يعتريني )
وفي قصائد أخرى نجد ما هو مختلف، فالعاشق يغني طربا من شدة الوجد، فالحب ليس فيه هوان وخضوع، بل العشق يمنحه النبل والكبرياء.
( متعبّداً فــي حبكم مترنّماً
في ذكركم, ليس المحبّ ذليلا )
نجد أيضا صورة المرأة العفيفة التي أحب الشاعر فيها براءتها وطيبتها، فالشاعر رغم صراحته لا تثيره الأنثى المتهتكة، لأنه مولع بعشق المرأة في أنقى صورها وأسماها.
( عشقتك مذ عرفتك رمز طهر
و عرش براءة و جنان حسن )
ثم سرعان ما نجد معاني متناقضة- للوهلة الأولى- في قصائد أخرى، فالشاعر يرى أن بعض النساء خائنات بطبعهن، ومن الصعب أن يجد الرجل بينهن امرأة مخلصة لا تعرف الغدر ولا تنكث بالعهد!.
( إني جهول بالنساء ولا أرى
بين النسـاء صديقة تتودّد )
ويجب الانتباه إلى انه ليس ثمة تناقض مقصود، فالشاعر يعبر بعفوية عما يضطرب في قلبه من مشاعر وأحاسيس متقلبة لا تستقر على حالة واحدة- كشأن سائر الناس- وهذا التلوين يبرز مهارة الشاعر في التعبير عن المواقف الإنسانية في أحوالها وصروفها كافة.
***
الشاعر (عدنان جاسم الناعمة) يقدم في ديوانه (حكايات في قصائد) تجربة شعرية تبتعد عن هموم الناس وشؤونهم في معيشتهم اليومية، ولا تخوض في الجدل الفكري، أو الطروحات الأدبية الحديثة، لتغرق في ذاتية محضة؛ ولكن دون الابتعاد عن القارئ الشغوف بالشعر أو التعالي عليه، ففي القصائد بساطة محببة تمكن الجميع من التواصل معها دون شروط ثقافية مسبقة.
ولكن هذا لا يعني أن الشاعر المعنى بالمتلقي- كما يبدو في قصائده- لم يتخل عن طموحه المشروع في العمل على وضع بصمة شعرية خاصة تميزه عن سواه من الشعراء، وان كانت لا تتنافر مع السياق الشعري المعاصر.
( ولأكتمنّ عن الورى حبّاً برى
جسدي, وشعراً ليس بالمنقول )
***
(حكايات في قصائد) ليس عنوانا لقصيدة في هذه المجموعة، لكنه قد يختزل قصائد المجموعة كلها، بل يختزل جانبا من تجارب وحياة الشاعر (عدنان جاسم الناعمة) صاحب الكلمة الرقيقة التي تدخل القلوب دون استئذان لأنها تخرج من قلب صادق.
سامر أنور الشمالي
المزيد...