«جوليا دومنا» لفيصل الجردي رواية تاريخية مشحونة بعاطفة وثابة تجعل كاتبها يتقمص شخصياتها

«جوليا دومنا» رواية تاريخية تسرد لنا سيرة حياة شخصية الإمبراطورة الحمصية جوليا دومنا بأسلوب ماتع ولغة شيقة بقالب فني متخيل أضفى عليها الروائي الجردي العاطفة الجياشة لدى الشخصيات الحقيقية التي قرأنا عنها في كتب التاريخ ومنها شخصية سيبتيموس الامبراطور الروماني زوج جوليا دومنا وولداها (جيتا )و(باسيان) وحبيبها الأول مقيم وامتناعها عن الزواج منه بعد أن تنبأت لها عرافة تدمرية بأنها ستصبح إمبراطورة روما كلها ,ورأت بحدسها الثاقب أن «مقيم « لن يستطيع تحقيق حلمها هذا ,لتتركه وتتزوج من القائد سيبتيموس وتحارب معه حيث كانت تجيد الرمي بالسهام حتى يحقق الإنتصارات المتكررة التي توصله أخيراً إلى عرش روما ثم مرضه وموته وتولي ابنه كركلا عرش روما ثم موته على يد المتمردين و قرار جوليا دومنا بالبقاء دون طعام حتى تلقى حتفها .
يقول: على لسان جوليا دومنا بعد وفاة زوجها :»لعل الذكرى أجمل من الواقع ,وأنا أعيش على الذكريات ,وهذا هو العاصي يتلوى بين الحقول والأشجار والأجمات يردد بترقرق مائه أناشيد الذكريات ..أي موجة من مائه ساقت إلي سيبتيم الحبيب ؟…حبيبان منذ لقائنا في اللحظة الاولى عندما أبحرت في عينيه ورسوت في فؤاده خضنا المعارك والحروب وتبوأنا صهوة المجد معاً عشنا معا وتألمنا معاً إلا أنه رحل وحده وتركني أعاني مرارة الفراق) ص111ثم قرارها بالإمتناع عن الطعام حتى الموت ,إذ لم تفلح كل محاولات حبيبها السابق بتشجيعها على الطعام والحياة بل طلبت منه أن يتزوج ويهتم بنفسه ولكن المفارقة التي أراد الكاتب الإضاءة عليها هو الحب المركب الذي عاشته الإمبراطورة حيث ماتت وفي يدها منديل كان «مقيم» حبيبها الاول قد اهداه لها منذ أربعين عاماً قبل زواجها والكاتب هنا يبررر لجوليا تركها لحبيبها لتتزوج من قائد عسكري دون النظر لفارق السن بينهما جرياً وراء تحقيق حلمها.
السهل الممتنع
يلاحظ القارىء ابتداء الصفحة الاولى بل منذ الجملة الاولى أن أسلوب الكاتب من السهل الممتنع وأن الروائي الجردي يمتلك عيناً أدبية حساسة يشدُّها الحدث ضمن تطور درامي واضح لسيرة حياة جوليا دومنا كل ذلك بلغة سهلة مفهومة وهذا ما ولد روح الـتآلف والحميمية بين العمل الإبداعي والمتلقي لتكون النتيجة نجاح العمل من خلال كتابة مفهومة لكل طبقات المجتمع ,وليس فقط لشريحة المثقفين مستخدماً أسلوب السهل الممتنع دون ابتذال أو سخف لأن الكاتب الذي ينحو الغموض في مفرداته ويستخدم لغة غير مفهومة تحت عنوان الشعرية سيجد كتابه طي النسيان كما يحرص الكاتب على الإثارة منذ البداية ,فلم يدخر وسيلة من وسائل السرد إلا واستخدمها عفو الخاطر ,فكلما كانت الأفكار مصحوبة بالفرح والمتعة عاشت في العقل لفترة أطول فقد قرأنا الكثير عن جوليا دومنا في كتب التاريخ ولكن لم يبق في الذهن منها شيء ومع الرواية ستبقى تلك العاطفة المتقدة التي صبغت لغة الشخصيات هي الراسخة في الذهن .ولعل الكاتب اختار الرواية التاريخية لأنها تمنحه فسحة واسعة كي يصور ويحلل الشخصيات والمواقف وتدل على ذكاء الكاتب الذي يفضل أن يعيش في التاريخ حياة شخوص تشعر وأنت تقرأ الرواية أنهم يتنفسون في وجه المتلقي, حولهم قلم المبدع الجردي إلى شخصيات من لحم ودم , تعيش بيننا فيما يعرف بالفانتازيا التاريخية أي أن الرواية تضيف للمبدع الجردي حياة جديدة لم يحياها إلا على الورق ربما لأنه يخاف منها فيكتبها عبر الصفحات حتى يبرأ منها
خصوصية الجردي
ولنتساءل عن الخصوصية التي تشدنا في هذه الرواية التاريخية والتي تجعل قارئها غير قادر على مغادرتها إلا بعد إنهائها جرعة واحدة .
لعل الجَّدة هي أول خصائصه تتأتى في قدرة الكاتب على النفاذ بهدوء عبر سرد كثيف إلى عالم الإنسان المعاصر رغم تاريخية القصة وكلاسيكيتها من حيث الأسلوب ,والملاحظ أن هوية الرواية تتشكل بالإنتقال الهادىء من الحدث الحسي البسيط البين إلى فضاء دلالي رحب عبر رؤية لا تنفصم عن الواقع رغم تاريخية القصة كما ذكرنا ليلتحم الفضاء الدلالي مع فضاء الحكاية في بنية السرد ويتعاضدا في دلالة جديدة تبتعد عن سلطة الخطاب الاجتماعي الوعظي لتمتلك قوة تواصلية فعالة مبنية على التقلبات والمفارقات هدفها الكشف عن إنسانية الإنسان في العصور الأولى.
عنصر التشويق
يحرص الروائي فيصل الجردي على عنصر التشويق في الرواية ,فهو المحفز الأول للقارىء ليواصل تلقفه للأحداث دون ملل وبهذا ينجح الكاتب في توصيل أفكاره بطريقة سهلة ومريحة وعفوية فالمعلوم أنه كلما كانت الأفكار مصحوبة بمتعة وسرور رسخت في العقل لفترة طويلة خاصة وأنها تقوم على الخيال من حيث بناء الحوار الدرامي بين الشخصيات وخاصة تلك التي جمعت جوليا مع حبيبها الأول والثاني فيشعر القارىء بان الحوار ليس بلغة قديمة بل فيه من المعاصرة ما يجذب القارىء الحالي فالحوار يقوم على لعبة فنية إبجابية تكشف عن ذكاء الكاتب وحذاقته في التعاطي مع الأحداث التاريخية بلغة معاصرة فالكاتب يصور ويحلل الشخصيات ويعيش حياة تلك الشخصيات حتى يتقمصها تماماً, فتتجسد أمامه من لحم ودم ولغة, حيث يتعاطف مع أبطاله ويبرر لهم تصرفاتهم فهو قد برر في أكثر من موقف رفض جوليا دومنا لحبيبها الاول وقبولها بسبتيموس القائد الروماني القوي رغم فارق السن بينهما ولكن الهدف هو تحقيق نبوءة العرافة بانها ستصبح امبراطورة روما في حين قد ينظر قارىء آخر لهذا الخيار الذي اتخذته جوليا على أنه عدم إخلاص منها لمقيم الحبيب الاول الذي نشا معها في طفولتها لكنه استبدلته بالقائد القوي .
وباختصار الرواية تضيف لكاتبها مرحلة جديدة من حياته الحقيقية التي يعيشها وربما يتمنى في اللاوعي أن يحياها هو في الواقع ولكن هيهات أن يتسنى له ذلك فقام بتجسيد الحكاية على الورق حتى يرتاح من قلقها ومخاوفها وليحصل على متعة الخلق والإبداع والرواية جديرة بكل قارىء حريص على نوعية الكتب التي يحفظها في مكتبته وهي صادرة حديثاً عام 2019 من 175 ورقة .
ميمونة العلي

المزيد...
آخر الأخبار