كان ذلك في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي جئنا الى دار المعلمين في مدينة حمص نحمل الشهادة الاعدادية بتفوق ، فدار المعلمين في تلك الحقبة كانت تصطفي الطلاب المتفوقين في الشهادة الاعدادية ليكونوا معلمي الأجيال في المستقبل ، وفي رحاب دار المعلمين التقى الفتيان من أنحاء قطرنا العربي السوري كلها ، وكانت الخطوات الأولى على طريق الكلمة ، وصحبنا في خطواتنا الأولى أساتذة أدباء أجلاء كانوا قادرين على فتح بوابات رحبة خضراء أمام فتية متعطشين الى المعرفة ، متطلعين الى عوالم مجهولة لكنها مضاءة في أعماقهم ، وكان من حسن حظنا أن يصحبنا في تلك الخطوات الأولى الأستاذ محمود فاخوري – أبو عاصم – طيب الله ثراه .
ماشعرنا يوماً إلا أنه أب لنا ، حريص على مستقبلنا ، ومزارع يحب أرضه الطيبة ، يعشق غراسه الصغيرة فإذا كفاه ديمتان تسقيان الغراس وإذا وجهه إشراقة منارة أمام هذه الغراس ، والأهم من ذلك كانت لديه الإرادة الصلبة و النية الصادقة أن يكتشف المواهب الأدبية البذور التي لم تنتش بعد ولم تنمُ ، وكانت البداية الجميلة حين كلف صفنا بمهمة كتابة خاطرة وشرح لنا آلية كتابة الخاطرة وكيفية التعامل مع الفكرة التي تخطر في بال كل طالب منا ، وهدانا الى كتب تفيدنا في هذا المجال ، واذكر أن الكتاب الأول كان كتاب من فيض الخاطر للأديب العربي المصري – أحمد أمين – أما الكتب الأخرى فكتب جبران خليل جبران ومنها : الأرواح المتمردة ، بدائع وطرائف وكتب ميخائيل نعيمة ومنها : زاد المعاد ، كرم على درب.
ومضى أسبوع على هذا التكليف وجاء الوقت المحدد لكي يقرأ الطلاب خواطرهم في حضرة هذا المدرس الجليل العلامة في علوم اللغة العربية وآدابها في ذلك الزمان والمربي الواسع الأفق السامي في معاملته ، وكانت اليد الأولى المرفوعة رغبة في القراءة يد الطالب – بلال مرشد – الذي قرأ خاطرة لامس فيها بشفافية وشعرية راقية وإيجاز غني بالدلالات والإيحاءات قضية صراع الإنسان مع الزمن ، وبدا مدرسنا – طيب الله ثراه – معجباً بهذه الخاطرة فشد على يده وأسهب في بيان إعجابه ، ولم يكن يدور في خلده وفي أذهاننا أن – بلال مرشد – سيكون شهيداً من شهداء الوطن بعد سنتين وقرأ الطالب جميل سرحان خاطرة لامس فيها فكرة أن الإنسان قضية وقادر على صنع المعجزات ، وكان جميل سرحان بعد ذلك شهيداً من شهداء حرب تشرين التحريرية.
ثم قرأ زميلنا عجاج عبد النور خاطرة بعنوان – الوحل – فيها من الأسلوب الجبراني الكثير ونال إطراء مدرسنا ، وقد رحل عجاج عن دنيانا منذ أسبوعين وفي مكتبته أكثر من عشرة كتب مخطوطة لم تر النور وهي تتوزع بين القصة القصيرة والخاطرة.
وجاء دوري فقرأت خاطرة شعرية بعنوان مقهى .
مقهى وتثاؤب نرجيلة وعقول تجلس مخبولة
فشجعني كثيراً وهمس في أذني ستصبح ياغسان صاحب دواوين وضحك واليوم أصبح الأبناء آباء ومازلت أحافظ على العلاقة الحميمة في الأخذ بأيدي الأبناء ، ولكن المقاهي والكافتيريات كثرت كثرة سرطانية والكتاب أصابه ضمور العضلات والتصلب اللويحي .
د.غسان لافي طعمة