سآخذ بعض المفردات التي بقيت في الذاكرة من زيارتي لمصر عام 1999 والتي حدّثتكم عن شيء منها في زاوية سابقة، فزاوية واحدة لا تكفي للكتابة عن بلد بحجم أكبر بلد عربي من حيث السكان، لقد فاجأني أن أعرف، على سبيل المثال أنّ عدد سكّان القاهرة، آنذاك هو 22مليون، أي أنّ فيها ما يقارب عدد سكّان سوريّة آنذاك.
كان جوّ القاهرة مشحوناً بما يشبه الغمامة، وهو ناتج عن حجم التلوّث، وزاد في كثافته أنّ أهل الأرياف التي تقع غربي القاهرة يحرقون بقايا محاصيل الأرض، فيتلاحم الهباب مع الهباب.
حين وقفت على جسر التحرير، ونظرت إلى النّمل البشريّ الذاهب في كلّ اتّجاه، شعرت بشيء من الرهبة، وأنا بطبعي لا أحبّ المدن المزدحمة، ربّما لأنّ نشأتي الريفيّة قد غرست في نفسي شيئا من ذلك، وربّما لأنني أحبّ الهدوء، والمدنَ الصغيرة، الملمومة، التي مازالت تحمل شيئا من مواصفات الأرياف.
النّيل والعبّارت التي تشكّل معلَما فيه، منظر انطبع عميقا وأنا أنظر من الطابق السادس المطلّ على النّيل، وفور رؤية ذلك قفزت إلى ذاكرتي تلك الروايات التي تحدّثت عمّا يجري في بعض العبّارات، ولا سيّما روايات نجيب محفوظ.
شاهدتُ بناية برجيّة على العظم كما يقولون، وواضح أنّها ليست بناء حديثا، وتُركتْ هكذا، وبدافع الفضول سألت عنها، فهي وسط القاهرة، قريبة من مقرّ الجامعة العربيّة، فقيل إنّها بُنيت بأموال أرسلتها السي .آي. إيه، لعبد النّاصر، ظانّة أنّها تستطيع شراءه بالمال، فأمر أن تُبنى تلك البرجيّة، وكان مقدار المبلغ خمسين مليونا من الدولارات، بعملة تلك الأيام.
عبد النّاصر محفور عميقا في وجدان الكثيرين من أهل مصر، ولكنّ السادات، والزاحفين خلفه استطاعوا أن يثبّتوا أقدامهم، والدليل على ذلك ما وصلت إليه مصر على يد خلفه مبارك، وحتى في الأوساط المثقّفة ثمّة مَن بدأ يسوّغ لنفسه أن يُقدم على خطوات ما كانت لتتمّ لولا خطّ كامب ديفيد، ففي جلسة في أحد الفنادق ضمّت عدداً من المثقّفين المصريّين، وكان فيهم الباحث والمفكّر المتميّز عبد الوهاب المسيري، الذي أنفق ربع قرن من عمره، في ظروف صعبة، لإنجاز موسوعته عن اليهود، وهي أهمّ موسوعة عُرفتْ حتى الآن،.. في هذه الجلسة كان ثمّة من يدور في فضاءات الثقافة، في الأربعين من عمره، كما قدّرت، سوّغ لنفسه ولأمثاله أن يذهبوا إلى المراكز الثقافيّة في الكيان الإسرائيلي، للاطلاع على آداب الاسرائيليّين، وطريقة تفكيرهم، ومعرفة ما عندهم، فذكّرني قوله بخيمة الكيلو متر 101 التي أقيمت على أرض مصر، وتفاوض فيها قادة عسكريون مصريون وإسرائيليّون، بعد خرق الدّفرسوار، وكان أوّل تفاوض علنيّ بين العرب والصهاينة، وقد سوّغها السادات بأنّها للاطّلاع على طريقة تفكير العدوّ!!،
اختيرت مدينة دمنهور لتكون المحافظة التي يُعقَد فيها مؤتمر أدباء الأقاليم، لذلك العام، وكانت النشاطات موزّعة بين المحاضرات، والبحوث، وثمّة أنشطة مُرافِقة في دور الثقافة الفرعيّة التابعة للمحافظة، وكانت النقاشات التي تعقب كلّ محاضرة أو بحث غنيّة، ومفيدة، وفي مصر اهتمام بالشعر الشعبي لافت.
يبدو أنّه في العديد من البلدان ثمّة مدن تُقال فيها الأمثال، وتنتشر، وممّا سمعته، وأعتذر من أهل دمنهور، يقولون :» صادقْ نُوري، ولا تُصادق دمنهوري»،
-لفتني أنّنا مادخلنا قاعة نشاط إلا ورأيت رجلا ربّما تجاوز الستين، ثيابه تنمّ عن فقره، فهو يحمل كيسا كبيرا مليئا بالكتب، ويتدافع نحوه الراغبون، فينظر في وجه القادم إليه ويناوله كتابا أو أكثر، دون أن يأخذ ثمنه، ولمّا سألته من أين هذه الكتب؟ قال من المكتبات والمؤلّفين، يعرفون ما أقوم به، فيعطونني ما لديهم، وأنا أوزّعها طلبا لنشر الثقافة، وعلمت أنّه ينام حيث يتيسّر له أن ينام، فهو كما قال عن نفسه مقطوع من شجرة، خلال حوارنا قال لي : « أنا أحبّ السوريين، ولقد أحببتك، وسأعطيك ما تريد ممّا معي» ،تعاطفت مع هذا البائس، وكتبت قصيدة عنه، وتخيّلت أنّه في آخر كلّ ليلة، يفتح كتابا، ويدخل بين صفحاته…
عبد الكريم النّاعم