ما سأتحدّث فيه له علاقة بالفِراسة ، وهو ليس علما بالمعنى الدقيق لكلمة علم، وقد قالوا فيه:» هو المؤشِّر على الشخصيّة، والطبع، وتُسمّى بفنّ تحديد الطباع أو خصائص الشخصيّة من خلال شكل الجسم، أو ملامحه، وما هو مكتسَب، ومنه ما هو موهبة، وقال آخرون عنه:» خاطر يحصل من القلب»، ويُروى أن الشافعي كان من أبرز المتفرّسين، وقد ذُكرت له كتب في اليمن، تتعلّق بهذا الفنّ، فطلبها فنُسِخت له، وقد اشتُهر العرب في صحاريهم وبواديهم بالفِراسة، حتى أنّهم كانوا يُميّزون عبر الأثر بين ما إذا كان الأثر لامرأة أم لرجل، وذكرت كتب التراث بعض من تميّزوا، حتى أنّ أحدهم قال ما معناه ما رأيت قفا رجل إلاّ عرفتُ شيئا من أخلاقه، فقيل له:» فإن شاهدتَ وجهه»؟ فقال: «فذلك كتاب مفتوح».
الحادثة الأولى، ذكر لي والدي رحمه الله تعالى، أنّه في ثلاثينات القرن الماضي سافر إلى حماة، لزيارة أقاربه، ولم يكن ثمّة سيارات، فسافر كالآخرين مشيا إلى حماة، واشتد عليه الحرّ، والفصل صيف، فعطش عطشا شديداً، وحين وصل إحدى القرى، اقترب من بيت ونادى « يا أهل البيت» فقيل له تفضّل، فدخل فإذا هي مضافة بدو، فطلب ماء فسقوه شنينة، وجلس على كرسي صغير يرتاح قليلا، وكان في المضافة صاحبها، وشيخ متّكئ على كرسي صغير، فأخرج والدي علبة الدخان، ووضع التّبغ في ورقة اللّفّ، وقذف بالعلبة لذلك الشيخ الذي بدأ يدقّق النظر فيه، فقال له صاحب المضافة : «عمّي أراك تطيل النّظر في هذا الضيف»؟، فتوجّه الشيخ بالسؤال لوالدي: «أنشدك بالله ماذا يقرب لك حسين النّاعم»؟ فأجابه:» إنّه والدي»، فقال الشيخ: «بيننا ثارات»، ردّ عليه :» الله محيّيك»، فقال نافضا يده: «أيام قضتْ»، فقال صاحب المضافة للشيخ :» عمّي هل هو يُشبه أباه»؟ فقال :» لا»، قال له:» إذن كيف عرفته»؟!! قال:» حين حرّك يده دافعاً علبة الدّخان تقول أنّها يد والده، ومن هنا سألته»، فانظر للذي ظلّ يحفظ تلك الحركة في ذاكرته أكثر من ستين عاما.
الحادثة الثانية، في ثمانينات القرن الماضي، كما أخمّن، دخلت مكتب صديق محام، أتردّد عليه، فوجدت عنده يافعا، تحدّث بثلاث كلمات أو أربع، وكان يطيل الصمت، ويحدّق في اللاّشيء وهو منكّس الرأس، وبعد أن جاء من أخذ هذا اليافع للطبيب، قلت له:» هذا يعاني من انفصام الشخصيّة، وكنت قد شاهدت عددا من هذه الحالات، وعلمت فيما بعد أنّه وُلد لرجل ادّعى أنّه يحبّ أمّه، وحين وصل إلى بُغيته منها، تنكّر لها، فوُلد هذا الولد، وربّاه جدّه لأمّه، وقالوا له إنّ أباه مات وهو جنين، وكان من أذكى طلاّب المدرسة، ومن الأوائل، وحين وصل إلى فحص شهادة الكفاءة، وذهب لإخراج قيد باسمه، فوجئ بالحقيقة، وأنّه مجهول الأب، فكانت تلك الصدمة التي أوصلته إلى مرض انفصام الشخصيّة،
بعد عامين تقريبا من رؤية هذا اليافع، ومعرفتي بقصته، كنت في زيارة الصديق المحامي ذاته في مكتبه، فدخل رجل يرتدي بزّة رسميّة، وتحدّث له بأمر قضائيّ، وحين خرج قلت لصديقي المحامي:» أتعرف بمن ذكّرني هذا الرجل» ؟قال: بمن»؟ قلت:» ذكّرني بذلك اليافع، المُصاب بانفصام،»، فاتّسعت حدقتا عينه، وبدت الدهشة على ملامح وجهه، وقال:» أقسم بالله، أنّ معظم أهل القرية يعرفون أنّه هو أبوه، ولكن كيف عرفت»؟! قلت:» حين تكلّم تذكّرت صوت ذلك اليافع، فكأنّه هو الذي يتكلّم، خمّنت ذلك من تشابه الصوتين»…
aaalnaem@gmail.com
عبد الكريم النّاعم