أزمة الازدحام للحصول على الخبز، أعاد لذاكرتي رحلة الرغيف في حياتنا، ففي طفولتي أربعة أنواع صافية من الخبز، الخبز الذي طحينه القمح، وهذا، في أربعينات القرن الماضي، لم يكن متوفّرا للكلّ، بل قلّة هم الذين خبزهم من ذلك الطحين، بسبب الفقر الذي كان سائداً، لاسيّما في الأرياف، وفي المساحة الريفية التي احتضنت طفولتي، كان الخبز مزيجاً من القمح والشعير، وبعضه من الشعير الخالص وخبزه عسير على البلع، وثمة خبز الذرة البيضاء، وهذا أشدّ سطوة من غيره، لاسيّما بعد أن يبرد إذ يتحوّل إلى كتلة صلبة، وكم أسالت من دماء اللّثّات، وخبز الذرة الصفراء وله نكهة خاصة، وكان محسوداً الذي يكون خبزه نصفه من طحين الحنطة والنصف الآخر من طحين الشعير.
في تلك الأزمنة، أيام الحرب العالميّة الثانية، جاءت مساعدات من الطحين، سمّوها طحين أسترالي، ورغيف خبزه شديد البياض، ولكنّه ينهكك في المضغ، فهو يحتاج لمضغ طويل، وتشعر وكأنّك تمضغ قطعة من الكاوتشوك.
كان هذا في الريف، حيث في كلّ بيت تنّور لخَبْز العجين، أمّا اليوم فلم يبق من التّنانير حتى في الأرياف إلاّ تلك التي تبيع ما تخبزه لبعض المسافرين، باعتباره شيئا شبه مفقود، وحين انتقلنا إلى مدينة حمص، كان كلّ سيدات البيوت يعجنّ العجين في بيوتهن، ويخمّرنه، ويقطّعنه إلى قطع كلّ قطعة بحجم رمّانة، ويُحمَل إلى الفرن، وهناك ينتظر دوره، إذ يرقّه الفرّان، ويحوّله إلى شكل مستدير، ويضعه في بيت النّار، وكلّ خَبْزَة ولها أجرتها، بحسب عدد الأرغفة، وإذا كان الفرّان صديقك قد يقمّر لك بعضها،
في تلك الأيام كنّا نطلب من الفرّان أن يقمّر لنا عدداً من الأرغفة، لندعو بعض الأصدقاء لتناول طعام الإفطار والذي كان لدى الغالبيّة، يتألّف من الشنكليش، والمكدوس، والزيتون، والزيت والزعتر، فهذه المواد أساس في مؤونة البيت، المؤونة التي تبدأ كلّ عائلة بالإعداد لها منذ أوّل أيلول، تحسّباً لمجيء الشتاء، ويسبق ذلك عصر البندورة وتجفيفها في الشمس، لأنّ مشتريات الأطعمة من الدكاكين كانت قليلة ونادرة، وفي حمص مثَل يعبّر بدقة عن حال الذين عليهم شراء حتى الخُبز، ولا يحسبون حساب المونة، فيقولون عنه:” يا ويلاه، بيتو بالكري، وخبزوبالشري”، أي بيته بالأجرة، وخبزه يشتريه من الفرن،
أسرد شيئا من هذا لعلّ أبناء أبنائنا يطّلعون على صيغة ما كانت عليه أجيالٌ سبقتْهم، لا لكي يقتدوا بذلك الزمن، بل ليتمكّنوا من تجاوز ما يعترض سبلهم من عقبات، وهي عقبات كبيرة، بل وكؤودة، ، وفكّ أقفالها ليس بأيديهم.
اليوم نزدحم على أبواب موزّعي الخبز، وآخر نبأ سمعته هو أنّ بيع الخبز سيكون بواسطة البطاقة الذكيّة،!!
أنا أعلم أن الغاية التقليل من الهدر، فثمّة طحين يُهرَّب خارج الأفران، وثمّة خبز يُباع بأسعار عالية لمربّي الأغنام، وثمّة من هو مستعدّ لبيع وجدانه وضميره بأيّ حفنة من المال، أعرف هذا، ولكنّني أعرف أيضا أنّ هذا ليس كلّ الحلّ، بل الحلّ كلّه في محاربة الفساد، فبائعو الطحين لغير أغراض الخبز يجدون مَن يتغاضى ربّما لقاء ( حَفْنة)، ومسرّبو الخبز لمربّي الحيوانات لهم أيضا من يتستّر عليهم، والمفزِع أنّ المتستّر هو من المكلّفين بالمراقبة والضبط،
صرنا في زمن العيش فيه مرير على عدد لا يستهان به من أبناء سوريّة، والنسبة الباقية، لم تحصل على ثرواتها بالطرق الحلال المشروعة، بل أتقنتْ فنّ التقرّب والسمسرة، ومن أين يؤكل الجسد كلّه لا الكتف فقط، وكان لها مَن يحميها.
أيّها الذين أُنيطت بكم مسؤوليات خدمة هذه الشرائح الاجتماعيّة، اتّقوا الله في أهلكم، وأقاربكم، وأصدقائكم، وأبناء بلدكم، اتّقوا الله في دماء الشهداء، وحاجات المعوزين، وأرامل وأيتام مَن استُشهد، فقد بلغ السكّين الحلقوم…
عبد الكريم النّاعم