كثيراً ما تتكرّر هذه الكلمات المُزعجة المُقلقة على ضفاف آذاننا، وشواطىء عقولنا، نسمعها بتأييد أو رفض أو استهجان.. فالذي يؤيّدها يكون غارقاً حتى شحمتي أذنيه، وبؤبؤي عينيه بهذه اللعبة القبيحة الشّوْهاء.. وهناك فئة من الناس ترفض مثل هذه المقولة وأصحابها والعاملين بها جملة وتفصيلاً وقولاً واحداً، لأنّهم – حسب منطوقهم – على قناعة تامّة غير منقوصة، أنّ اتّباع مثل هذه الطريق غير المستوية، فيه من الانحدار والسقوط الأخلاقي والإنساني ما فيه، ولأنّ مَنْ يمشي في هذا الدّرب الرّمادي المُطلسَم بالقتامة والسّواد، هو شخص قد حكم على نفسه بركوب أرجوحة الهوان، وعربة المهانة، ضارباً عرض الحيطان كافّةً بكلّ القيم والمبادىء والخطوط المستقيمة، التي حسب فلسفته الغوغائيّة، ومنظوره ذي الغباشة والإظلام، أنّ هذه الأخيرة، لا تساوي في نظره جناح بعوضة، أو ذيل حيوان نافِق!
نعم بعضنا يصطاد بعضاً، هنا في وضح النّهار، من غير تهيّب أو أدنى رادع، أو أقلّ خجل، فماذا دَهانا؟ وإلى أيّ منحدرٍ خطرٍ نحن ذاهبون؟ ما المصير الضّبابي الذي ينتظر أبناءنا في المستقبل، ونحن نعيش اليوم مثل هذه الحالة المُتأسِّية وسواها؟!
نعم شِباكُ الاصطياد المنصوبة تختلف من شخصٍ إلى آخر، فهذا يجيءُ (الأَكْلَ) عنده من أقصر الطرق، وأيسرهاً تناولاً، وشخص آخر يدور حول الأمر مداوَرَة ذئبيّة أو ثعلبيّة، إلى أنْ تقع الفريسة في المصيدة المُعدّة مسبقاً، بانتباهةٍ منها أو من غير انتباهة.. وهناك مَنْ يلفّ في حركاته وتحرّكاته، ويمشي في دروب حلزونيّة “زِكْزاكِيّة”، حتى يتمكّن من إيقاع الآخر المسكين من بني مجتمعه ووطنه وجِلْدته في بئر الحصار والتّضييق والمُراوَغة، وحينها وعندها، لا بدّ من وقوع خسارة الطرف “المجنِي عليه” البريء، وهو يُبسمِلُ ويُحوقِلُ مُسلّماً أمرَه للخالق جلّ في علاه، في ما وقع له على يد هذا الآكلِ المحترف، من غبنٍ وحيْفٍ على حين غرّة، ويا غافل لك الله!
السؤال العريض هنا مُفادُهُ: هل اقتصر أمرُ “أَكْلِ الكتِف” على فئة الكبار من الجنسين، أم أنّ القضية انسحبت أيضاً حتى ملاعب الطفولة، وشواطئها؟ الحقّ: حتّى البعض من صغار السنّ دخلوا طقسَ لعبة الاستغماية هذه، فقد تعلّموا أبجدية “الأَكْل” من الكبار، من الآباء أو الأمهات، من الأعمام من الأخوال، أو من إخوتهم الأكبر سنّاً، أو من حفنةٍ من “الصّايعِين الضّايعِين”، الذين أضحى عددُهم في وقتنا الرّاهن أكثر من الهموم على القلب الواحد، خاصّة وأنّ هذه الهموم قد باتت لها أنباضُها المؤلمة، التي آذتْ وجرحتْ عصبَ الرّوح، من دون هدنة أو هوادة أو أدنى شفقة! إنّ المسألة من دون مُواربة، ومن دون لفّ أو تزوير أو زوغان، واحدة من مواجِع مجتمعنا ومنغّصاته، التي دهَمَت – على حين غفلةٍ منّا – عقولنا ونفوسنا وأرواحنا، لأسباب طارئة نجهلها جميعاً أو نعرفها جميعاً، لكنّ شريحة أو شرائح عدّة من شرائح المجتمع، ما تفتأ تبرّر لهؤلاء الأَكَلَة المنْهومِين، ما يقومون به من أَكْلٍ هستيريٍّ محموم، (لكأنّ الدنيا لم تعد تُشبِع نفوسهم الوالِغة في موائد الجشع، وجيوب الآخرين).. عليه، ينبغي ألّا نخدع أنفسنا أو نخادعها بالحقيقة، فحقيقة “أكْلِ الكتِف” في مجتمعنا قد أضحت “على عِينَك يا تاجِر”، بل باتت مرضاً اجتماعياً خطيراً مُستَشرِياً، نعم علينا أنْ نقرّ وأنْ نعترف بالحقيقة الدّامغة، أمام عين الشمس “رائعة النّهار”، ومن غير اختباء وراء الأُصبع، ونحن بكامل قوانا العقليّة والبدنيّة – إنْ بقي شيءٌ من بقيّتها – أنّ الأمر قد استفحلَ وطغَى،.. ختاماً ألمْ يقل “الإمام “الحسن بن يسار البصريّ “21 – 110 هجري”، (إمام، قاضٍ، محدّث، كثير العلم، فصيح، ناسِك) ذات يوم:
“بَعضُنا يَصْطادُ بَعضَاً والشِّبَاكُ تَختلِف”
“ذا يَجِيءُ الأمْرَ رَأْسَاً ذا يدُورُ أو يلفّ”
“والصّغِيرُ باتَ يَدرِي: كَيْفَ تُؤْكَلُ الكَتِف”
“لا تُخادِعْ يا صَدِيقي بِالحَقِيقةِ اعتَرِفْ”…؟!
وجيه حسن