في المطلع: مع الاحترام والتقدير ورفع القبّعة لكلّ مَنْ يخطّ حرفاً، أو يرسم كلمة في جريدة أو مجلة أو دراسة، أو في مخطوطٍ لكتابٍ ينوي مؤلفه طباعته مستقبلاً، برغم غلاء الطباعة الفاحش هذه الأيام، الذي يكوي القلوب، ويفرّغ الجيوب، فإنّ بيننا عدداً كثيراً أو قليلاً ممّن يُطلَق عليهم في الكلام العام أو الخاص تسمية: (أدْعِياء الثقافة).. فهل لهذه الشّريحة الموسومة بـ “الادّعاء الثقافي” المزْعوم، وزنٌ أدبيّ أو فكريّ أو واقعيّ في حياة المجتمع ونهضته؟ سؤالٌ مُوَالٍ: هل لهؤلاء ذاك التأثير المباشر في عقول القرّاء ونفوسهم، أو في فئة المتابعين الحريصين على تتبّع قطار الحراك الثقافي في مجتمعنا السوري؟ بلغةٍ أخرى: هلْ يقدّم هؤلاء الأدْعِياء وأمثالهم فعلاً ثقافياً باصِماً، وفائدة تُذكَر لأبناء وطنهم وجِلدَتهم، الذين يقرؤون ويتابعون ديناميكيّة الفعل الثقافي على تباطؤ عَجَلتِه، وتثاقل مسيرته لجملةٍ من الأسباب، يعرفها بعضنا، ويجهلها بعضنا الآخر؟! من هنا القولُ بنبرةٍ من الجرأة الشّفِيفَة: كيف يفكّر أمثال هؤلاء الأدْعِياء؟ علامَ يعتمدون في ادّعاءاتهم الواهمة؟ أليس لدى البعض أدنى (خجل ثقافي) ممّا يقومون به، أو ممّا يقدّمونه للقرّاء، أو لجمهرة المستمعين من نثرٍ أو شعرٍ، لا يمتّان في الحقّ والصّدق إلى نصاعة الشّعر الباهر، أو إلى نضارة النّثر الأدبي الرّفيع بأيّة صلة؟ فكيف يجرؤ أحدنا إذاً على كتابةٍ هشّةٍ، مريضةٍ، “مُكَوْرَنَة”، صاحبُها في الأُسِّ والأساس، وبينه وبين ذاته، غيرُ مقتنعٍ بإذاعتها أو إلقائها أو نشْرها بين القرّاء أو المستمعين، لكنّه يفعلها؟ ومن أسفٍ أسِيفٍ، فإنه حين تقع أعيننا على نصّ شعري أو نثري، أو حين تنقذف الكلمات بواحدةٍ من الأمسيات إلى شواطىء آذاننا، وإلى بُؤَر عقولنا، فإنّنا لا نجد فيها سوى الغُثاء الذي لا يُسْمِن ولا يُغْنِي، إذاً لماذا تضيّعون أوقاتكم وأوقات الخَلْق من عباد الله، وأنتم لا تزالون تراوِحون في ألف باء الكتابة الصحيحة؟ لماذا تركضون لاهثين نحو الشّهرة؟ الكتابة أيّها الكَتَبَة الأفاضل، تحتاج في ما تحتاج إليه، إلى إلمامٍ وافٍ بأدواتها المعروفة من نحوٍ وصرْفٍ وفقهٍ وإملاءٍ وقواعدَ ولغةٍ وصدقٍ مع الذات، وإلى المعنى والمبنى، إلى قراءات غزيرة متنوّعة، كما تحتاج إلى تمزيق عشرات الصفحات بل مئاتها، قبل أن يجرؤ أحدنا على خوض غِمار الكتابة، وملء الأوراق بما هو جميل جديد فعّال ومؤثّر، يرضي القرّاء والمستمعين، هنا ألمْ يقلْ أبو نصر الفارابي يوماً لسيف الدولة بن حمدان: “اصبرْ.. فإنَّ الأمورَ بِعَواقِبِها”؟ ثم ألم يقل أحدهم: “منطقُ القلب لا جدال فيه، والكلام النّابع من القلب ساقط أبداً في القلب”؟! الكتابة كتّابَنا وكاتباتِنا الأكارم، تحتاج حقّاً لا ادّعاء إلى القراءة الجادّة المتأنية في أمّهات الكتب، تحتاج إلى الصّدق الفنّي، إلى الحوار، إلى الاطلاع على تجارب الآخرين، إلى أنْ نتعلّم من تجاربنا، ومن تجارب مَنْ سبقونا، الذين صرفوا جلّ أعمارهم وأوقاتهم، وهم يقرؤون ويتابعون ويدرسون ويتبصّرون ويفهمون ويكتبون، ويُنقَدُون ويَنقُدُون حتى استوت أقلامهم، وصلحت كتاباتهم، وتوسّعت آفاقهم، وتلامعت أفكارهم، ليُطلَق عليهم في نهاية المطاف تسمية “مثقفين”، وهذا كلّه لم يتأتَّ لهم من فراغ، وليس من أقصر الطرق، أو من بوابة التّقاعس، وعدم المواكبة لكلّ ما هو جديد في المكتبات من كتبٍ ذات عنوانات ثريّة لافتة؟ القراءة قرّاءَنا الأعزّاء، لها دور كبير مهمّ في تنمية الفكر، وإغناء الوجدان، وإخصاب الخيال، وإشباع حاجات الفرد النفسيّة، من حيث إشباع حاجته في الاعتماد على نفسه، وذلك بتحصيل المعرفة والاكتشاف، ومعرفة عوالِم كانت مجهولة أمام باصرتيه، وحقائق كانت غير معلومة لديه، ليصبح في خاتمة المطاف واحداً من المثقفين الكبار، أو الكتّاب المعروفين..
عَوْدٌ على بدء.. فإنّ مَنْ يَتَعَرْبشُون اليوم على سلالم الثقافة/ الكتابة بغير وجه حقّ، هم فئة رخوة “ذات مكياجات مزيّفة”، حكمت على نفسها بالضّعف، وارتضت أن تكون من أولئك الذين يتبجّحون ويُطنطنُون، بأنّ أحدهم هو من حَمَلَةِ راية الثقافة والكتابة “بكلِّ فخر وادّعاء”، فهؤلاء وأمثالهم وأنصاف أمثالهم، لا يمكن أن يقدّموا لوطنهم ما يستحقّه من ردّ الجميل، ومن إضافات نورانيّة مشهودة، في حقل الشّعر، أو في ميدان النّثرعلى حدّ سواء…
بيت القصيد، وخاتمة “التحيّة”، يقول أحدهم: “إنّ المجدَ الأوّلَ لكلِّ شعب.. ينبعُ من كتّابه وكاتباته الأفذاذ، ومن مثقّفيه ومثقّفاته العِظَام بآنٍ معاً”، فأين نحن من هؤلاء الكبار؟!
وجيه حسن