في عالمنا الرّاهن، وحياتنا المعاصرة، ما أقسَى أنْ تتنازعنا الأضداد والمُتناقضات ، فنصبح أُلهية، أو أُضحوكة، أو كرةً مطاطيّة تتقاذفنا الأيدي الخفيّة أو المُعلَنة، من جهةٍ لأخرى، من موضعٍ لآخر، ونحن في حالٍ مُسْتلَبَةٍ من الخضوع والضّياع والبلبلة، خاصّة إذا لم نُنصّب منْ عقولنا حكّاماً مُنصفِين على تحرّكاتنا وأفعالنا والسَّكنَات! فأحدنا – تمثيلاً – ينظر إلى حياته الرَّاهنة- ونحن قد دخلنا عتبة نهايات السّنة الميلادية 2020- فيرى كيف يعيش بينه وبين نفسه حالة من الانكسار على صُعُدٍ عدّة، تلك الحالة التي أوجدها بيديه في غفلةٍ منه، أو عن سابق تصميمٍ وترصّد، أو تشكّلت بفعل فاعلٍ مستترٍ خارج إرادته ورأيه وقناعته.. ويرى هذا المُنكسِر في جوّانيّته، المطعون في راهنيّته، المُستلَب في مواقفه، كيف أخذته المتناقضات طيَّ ألاعِيبها وفذْلكاتها، وكيف تنازعتْه الأضداد، فتفرّقَ أحدُنا “شَذَرَ مَذَرَ”: أيْ ذهبَ في كلّ اتّجاه ووجه، بدءاً من أكلَتَي التبّولة والمجدّرة، إلى “سندويتش الشّاورما والشّيش طاووق”، إلى تعاطي السّجائر و “النَّرْجِيلة”، إلى اللهو القاتل، وإضاعة الوقت بـ “الموبايل”، وبرامجه وصوره وتطبيقاته البانوراميّة، ومن التّفكير إلى التّكفير، فظلّ رهينة أفكار كابِية سُودٍ معتمة، كوجوه أصحابها وحامليها، منْ دون تمعّن أو تمحيص أو تدبُّر، أو من بقايا الأفكار البالية العتيقة، التي عفا عليها الزّمن، يتشاتَمُون، يتلاعَنُون، يتذابَحُون، مُتوكّئين على ماضٍ غابر، مضى عليه قرون وأجيال، فهو بحقٍّ يحتاج من العلماء والفلاسفة والمفكّرين والباحثين والدّارسين والمحقّقين والمؤلّفين المخلصين، ورجال التاريخ الأنْقياء الأتْقياء، أرباب العقول الوازنة، ذات الثقة والتّنوير إلى قراءةٍ متأنّيةٍ مركّزة، وإلى بحثٍ دائبٍ مُضْنٍ، لفرز القمح الصّحيح من الزّؤان البائِخ، وبالطبع يتطلّب هذا كلّه جهداً استثنائياً مباركاً، عالي المنسوب، رفيع المنزلة.. واليوم، في حياتنا الرّاهنة، يسعى المرء حائراً ما بين فائض القيمة، وكثبان رمليّة تتضمّخ برائحة النّفط، هذا الذّهب الأسود الذي هو مُسبِّبُ الاحتلالات والاعتداءات والسّرقات، شرقاً وغرباً وبِكلّ اتّجاه، ويرتحل الفرد عبر ذاكرته صوب ماضٍ تاريخيٍّ للأمّة، ولا يرى بعينيه النّافِذتين الباصِرتين سوى سيوفٍ تُرفَع وتنقضّ، ولا يشاهد إلّا رقاباً تُخفَض وتُذلّ، وأجساداً بريئة تتطايرُ أشلاءً فوق النّطع: “بِساط من الجِلْد، يُفرَشُ تحت المحكوم عليه بالعذاب، أو الإعدام”!! بل ويرى في كثيرٍ من المواقف والمحطّات أفكاراً مضيئة، وعقولاً مُبدِعة، هي التي تعمل على رَأبِ الصَّدع، وتصويب البوصلة، وفرز الكثير من المواقف والآراء والفلسفات التي تُجانبُ المنطق، وتُخالف العقل! ولا ريب أنَّ هذا التّداخل بين الأزمنة والأمكنة والأحداث التاريخية والوقائع والغزوات، هو الذي يمنح التّفكير المُسْتأنِي بُعْدَاً فلسفيّاً قشِيْبَاً، ورؤى جديدة! وهكذا، ومن أسفٍ، يظلّ الحاضر مُدَاناً بالماضي، وتظلّ الصّحراء هي المَتن، والأشجار مجرّد هامش مُظلم، أو “فالصو”! هنا، يتساءل أحدنا بينه وبين نفسه: متى يعود الفرد منّا لأنوار العقل كي يصحّح المسار، وكي تأتي الخطوات اللاحقة مُتوازِنة، حتى لا تزلّ بأحدنا الأقدامُ؟ ثمّ متى تصحو الأمة منْ هاتِه الكَبَوات المَاحِقات، وهذه الأفكار الغائِمات؟! متى يعود صفاء القلوب إلى القلوب؟ متى يتبرعمُ الوعيُ فينا، فنبحث لنا عنْ دروب جديدة، تقودنا جميعاً إلى وعْيِ ذواتِنا وأنفسِنا، قبل أنْ تأخذنا العواصف، وتجرفنا السّيول، فيبقى بعضنا بجهلٍ وارْتكاس، أو تطاوسٍ وعناد، يسير وراء الظالم المُحتلّ كالنّعاج، إمّا إلى المراعي المُتصحِّرة، أو إلى المصير المحتوم، أو إلى “النَّطع”، كما هو حاصل اليوم ببعض أقطار “بلاد العُرْب أوطانِي..”؟ فماذا نحن صانعون؟ وإلى أيّ مصيرٍ غائمٍ خطِرٍ هم سائرون؟ أم لانزال حتى الساعة نعيش بَرْقَ السّحاب بلا مطر، من الضّياع إلى الضّياع؟!
وجيه حسن