كتبتُ في زاوية سابقة عن عازف الكمان الحمصيّ فهد الجنيّات أبو سعيد، وسأفرد مساحة هذه الزاوية للفنّان مروان غريبة، مشيرا أنّ حمص عرفت عددا من الذين اشتُهروا بالعزف على آلة الكمان، ومنهم رياض الشبعان الذي عمل لفترة في فرقة إذاعة دمشق.
الفنّان ذو الأصابع الساحرة مروان غريبة تعلّم الكمان ليس على يد معلّم، وإنّما كان معلّمه حساسيته، وعشقه لهذه الآلة، وذاكرته النّادرة في حفظ الألحان، ففي أيامه لم يكن ثمّة كليّات للموسيقا، أحبّ آلة الكمان وعشقها، وراح يجدّ ويصارع حتى برع في العزف، وليس كلّ عازف على آلة ممّن يمكن القول فيه إنّه مُبدِع ومتميّز فهذا يرجع إلى ” الموهبة”، والموهبة سرّ من أسرار الخلق، قد تكون لدى هذا العازف، ولا تكون لدى ذاك، والاثنان قد يجيدان قراءة النوطة، غير أن براعة العزف وحساسيته تتّضح في التقاسيم، لاسيّما في الموسيقا الشرقيّة.
أوّل عمل للفنان مروان غريبة كان في إذاعة ليبيا، فقد عمل فيها لمدّة عامين، وانتقل بعدها للعمل مع عدد من مشاهير الفنّانين، ومن أبرز ممّن عمل معهم الفنان الكبير المرحوم وديع الصافي، فقد عمل قائداً لفرقته لمدة أربع سنوات، كما عزف مع السيّدة فيروز، ومع نصري شمس الدين، وظلّ مع المطرب الشهير صباح فخري سبع سنوات، وقد أتاح له عمله أن يزور الكثير من البلدان العربيّة والأجنبيّة، فعزف في القاعة الملكيّة للمهرجانات ببريطانيا، وفي قاعة ” كان” للمهرجانات السينمائيّة، ومُنِح الوسام الذهبي من المملكة المغربيّة، ودعتْه الفنّانة الكبيرة رتيبة الحفني، مغنّية الأوبرا الشهيرة، عام 1996 إلى القاهرة كعضو لجنة تحكيم في مسابقة الكمان الدوليّة، وقد أشرنا سابقا إلى أنّ رتيبة الحفني دُعيت لعامين لحضور أسبوع الثقافة الموسيقيّة بحمص أيام تألّقه، الذي نتمنّاه أن يعود، كما عمل رئيسا لفرقة نقابة المعلّمين لمدّة أربع سنوات، بعد رحيل قائد هذه الفرقة ومؤسّسها المرحوم محي الدين الهاشمي، وهو منذ عشر سنوات يرأس فرقة نقابة الفنّانين،كلّ هذا ونتساءل، في السياق لماذا لا تهتمّ إذاعتنا وتلفزيوننا، بتسجيلات لمثل هذا الفنّان النّادر،أذكر أنني جمعت له من حفلات متعدّدة شريطا، وهو بحوزتي، ولكنّه على الكاسيت، وعصر الكاسيت يُعتبَر ميتا، وربّما هو لا يعرف ذلك،
-في رأيي لابدّ من الإشارة إلى ناحية أعدّها هامّة، وهي أنّ مروان غريبة استمع إلى الأغاني الريفية، واستوعبها، ربّما بحكم أصوله في بلدة المشرفة الشرقيّة، التي اشتُهرت بعدد من الأصوات النّادرة في غناء العتابا الشرقيّة وكسْراتها، واقتنص مواضع الجمال منها، وهذا ما يفتقر إليه معظم عازفينا، وأذكر مرّة أنّه كان يقف على مسرح دار الثقافة بحمص، في أحد الأسابيع الموسيقيّة أيام زهوتها، والتي لم يغب عن أيّ أسبوع منها، وقف يعزف والصالة ملأى، ومعظم الحضور هم من أبناء المدينة، بمعنى أنّ نسبة أبناء الريف قليلة، وفجأة قفل إحدى القفلات، ومنها فاجأ هذا الجمهور بتقسيمة” سويحلي”، وهو غناء ريفي معروف في سورية والعراق، فكان حين أنهى قفلة السويحلي أنّ هبّ كلّ من في القاعة يصفّق بطرب،
-عن أهميّة التعرّف على المنابع الريفيّة لكلّ عازف، استعيد ما ذكره لي الفنّان العراقي، عازف العود الشهير منير بشير، قال لي إنّه أوّل ما ذهب إلى بريطانيا، اجتمع لسماعه نخبة من الموسيقيّين ونقّاد الموسيقا، فعزف لهم معزوفات غربيّة صعبة، وتحتاج لتحكّم، وبراعة ومهارة، فلم يبد عليهم أنّهم قد أُعجبوا، وسأله أحدهم :” هذه بضاعتنا”، فأين بضاعتك”؟!! يقول منير بشير ومنذ ذلك اليوم عدتُ إلى منابع الريف العراقي، والطرب الشعبيّ، فحقّقت ما حقّقت”.
-ذات مناسبة عيد تكرّم الأخ مروان وزارني في بيتي، وهذا قبل قرابة خمس وثلاثين سنة، ويعرف عشقي لأغاني الريف، فقال أسمعني شيئا ريفيّا، فاخترتُ عزفا جميلا على الرّباب يرافقه غناء العازف، وهو من أهل الجزيرة، زارني أيضا ذات يوم، وسجّلت له مدّة سبعة عشرة دقيقة غناء وعزفا حنوناً، دافئا، فوضعت الشريط في آلة الكاسيت وبدأنا نستمع، وحين انتهت هذه الوصلة قلت له:” للأسف هذا كلّ ما سجّلته له” ، فقال ضاحكا:” أتريد أن تموّتنا”؟!! هل تذكر ذلك ياصديقي؟….
عبد الكريم النّاعم