الزّمن، كما أقدّره الان في نهاية سبعينيات القرن الماضي، كنّا نسهر خمس ليال على الأقلّ من أيام الأسبوع، هذا إن لم يكن السهر يوميّاً، فلا حرب، ولا غلاء، ولا انتشار للفساد والسطو بهذه الطريقة التي تحاصرنا اليوم، وقبل هذا وبعده فقد كنّا ما نزال قريبين من عمر الشباب، ولهذا العمر خصوصيّته.
كان ثمن الفروج ” البروتستد” خمساً وعشرين ليرة سوريّة، أقول (ما يقرب) لأنني لا أثق بذاكرتي الرقميّة، ولعلّنا كنّا كثيري الشكوى من الزمن الذي نحن فيه، ربّما لأنّنا كنّا نطمح، ربّما، إلى زمن قد لا يتحقّق إلاّ في الخيال، فإذا اقترب من الواقع خلعْنا عليه الكثير من مثاليّات ما نتوق إليه، وهكذا لا تُعرف قيمة بعض الأزمنة، إلاّ بعد أن تكون قد أصبحت مجرّد زمن في الذّاكرة.
في أحد الأحياء الشرقيّة التي نشأت بعد ستّينيات القرن الماضي في حمص، والتي أتّسعتْ حتى صارت أضعاف أضعاف ما كانت عليه، ومعظم سكّان هذه الأحياء هم من الذين هجروا الأرياف إلى المدينة بحثاً عن حياة أفضل، .. في هذا الحيّ، التقينا في بيت أحد الأصدقاء بدعوة منه، ومُدّت لوازم الجلسة، وما كنّا نسهر دون أن نستحضر ذلك الغناء الريفيّ الحنون حتى الجرْح، أو نقتطف من ثمار ما حملتْه أشجار العراق من أحزان، وهي أكثر إغراقاً في الأسى، حتى لكأنّنا ونحن في قمّة النّشوة كنّا لا ننسى ذلك الرفيق الحميم ( الحزن)، نصفّق ونحن حزانى، ونرقص وفي الأعماق حزن، وفي أسارير وجوهنا من البهجة ما لا يتساوق مع تلك الأعماق، وأنا هنا أتحدّث عمّن أنا مثلهم في تكوينهم الداخلي، وكان لنا صديق غجريّ، لا أعرف أين هو الآن، بعد أن شرّدت حرب الدواعش والنّواهش ما شرّدت، أنيق الملبس، أنيس المعشر، وكان إذا أمسك بآلة العود أخذ بمجامع قلوبنا، وهو يعزف ولا يغنّي، يلتزم بآداب الجلسة التزاماً قلّما يجيده غير أمثاله، وما تكاد تكون لنا سهرة في حال غيابه، فهو الذي يُجري المياه في تلك السواقي الجافّة، فيُوقظ فينا شهوة الحنين للمياه، ونادراً ما كنّا نغادر البيت الذي نُدعى إليه قبل بزوغ الفجر، وكم من سهرة خرجنا منها لنجد أنّ المُبَكّرين على أعمالهم قد بدؤوا يدلفون إلى الشوارع.
تُرى هل كنّا نستعيد بعض ملامح ما نشأنا عليه في طفولتنا ويفاعنا، ونلوّنه بألوان أحلامنا، ونستقبل به وجهةً بعرض تلك السماوات دون أن نحدّد إلى أين نريد أن نصل؟!! ربّما كنّا نشعر بطريقة غامضة أنّ علينا أن نسير، نسير فقط.
الأعراس والدّبكات التي عرفناها في الطفولة اختفت حتى في الأرياف، إلاّ فيما ندر، ذهبتْ بكلّ بهائها وألوانها، وفروسيّتها، ولم يعدْ يرتفع مساءً في القرية دخان التّنانير، وغابت أواخر الطيور خلف تلك التّلال، كان الريف كلّه ينزلق إلى عوالم جديدة، كان أكثرنا انشراحاً، وانبساطاً في تلك الليلة، صديقنا أبو عدنان، فما يكاد يجلس حتى يقوم إلى منتصف الغرفة، ويقف، ويصفّق، ويرقص، ويضحك ضحكاً عالياً ويقول :” وْلِكْ انبسطوا .. انبسطو .. والله العظيم بَدّي أموت” ويضحك بانشراح لافت، وكان كالحصان لا يشكو من علّة ، مع انبلاج الفجر غادرْنا ذلك البيت، وبعد يومين كنتُ في منتصف المدينة في طريقي إلى مقهى “الهلال”، فصادفتُ أحد أصحابنا الذين كانوا معنا في تلك الليلة، وبعد المصافحة مباشرة قال لي:” هل سمعت بأبو عدنان”؟ قلت:” لا، ما به”؟ قال:” البارحة توفّي”، نقزتُ في داخلي، وتوقّفتُ عند مقولة تتردّد بين الناس، وهي أن البعض يشعر بدنوّ الموت منه بطريقة ما، كيف لا أعرف، ولكنّ هذا أمر تكرّر مع آخرين…
عبد الكريم النّاعم