لقد حضرت نقاشاً وأنا صغيرٌ،بين رجل مثقف وابنته الجامعية ،وكانت تدرس على ما أذكر في المعهد العالي للفنون التشكيلية في باريس وقد جاءت إلى سورية في زيارتها السنوية ،وكانا على معرفة جيدة بجدي وجدتي في القرية ،مع العلم أنهما يقطنان في دمشق .
لم أزل أذكر نقاش الفتاة مع والدها حين بدأت بوضع نقاط الاختلاف بين أوروبا وبلادنا فقالت : إن بلادنا من أجمل البلاد في العالم ،وأحب وطني كما أحب أمي ….ولكن لماذا تعتبرون البلاد الغربية حضارية أكثر من بلادنا ؟! الحضارة لا تعني صناعة السيارات والطائرات والصواريخ الفضائية ، فإن كنا لا نستطيع صنع سيارة ،أفلا نستطيع أن ننظف شوارعنا ؟! فالنظافة هي مقياس الحضارة ..في باريس لم أر إنساناً يرمي بعقب سيجارة في الشارع ،ولكن هذا الإنسان هو ذاته الذي يرمي القمامة في الشارع عندما يعود إلى وطنه… لماذا يصبح حضارياً هناك ،وعندما يعود إلى هنا تراه ينسى حضارته ؟! أليست الفنون هي غصن من الغصون الحضارية ؟! لقد زرت ايطاليا وتمعنت في نحت الأحصنة هناك ،صدقوني لا يوجد حصان يشبه الآخر ..أما عندنا فترى الحصان هو ذاته يقف جامداً وكأنه صخرة ..وترى تمثال الفارس الذي يمتطي الحصان هو ذاته في جميع منحوتاتنا …يرفع سيفه إلى الأعلى دون أي علامات للحياة ….إن تمثال النبي موسى لرفائيل (في إيطالية) يضج بالحياة ،لكأنه ليس من رخام, بينما عدد من منحوتاتنا جامدة وكأنها حجر بازلتي جامد! …حتى الشوارع هناك تشعر وكأنها ريشة من ريش الحضارة ،لا أحد يسير عكس السير ..والمشاة ملتزمون بطريق أو رصيف المشاة ..الخ … ما زلت أذكر كلام تلك الفتاة ،حيث تعود ذاكرتي وتلتقطها عندما أرى شوارعنا مزدحمة في السيارات في الاتجاهين ،(و الشاطر)من يستطيع أن يعبر الشارع بسيارته كما يحدث في شارع الحضارة أو شارع العشاق في عكرمة الجديدة …أما في الأحياء الأخرى ..فلا تجد موقفاً لسيارتك ،لأن أصحاب المحلات قد حجزوها لبضاعتهم ..والشارع يغص بالدراجات النارية …والأرصفة ممتلئة بالبضائع والخضار ،ومظلات المطاعم ..وكراسي المقاهي ..ونصف الشارع محجوز بالكراسي وغيرها , وفوق كل ذلك ترى صاحب المحل قد فرش الشارع بالطاولات والكراسي لاحتساء المتة واستضافة الأصدقاء ..ولعب طاولة الزهر ..و (الشدة) ..
وإذا سنحت لك الفرصة بزيارة حي العباسية ..وذلك بعد دوار العباسية ستشاهد جميع المحلات أصبحت صناعية ..وصراخ المولدات الكهربائية الذي يصم الآذان ،تبدأ عملها منذ السادسة صباحاً وحتى العاشرة مساء .. فهنا محل لبيع الفروح ….وقبالته محل آخر لحداد لا يتوقف الجلخ عنده حتى في ساعات انقطاع الكهرباء حيث ضجيجه يوقظك من الساعة السادسة ..وهناك مشحم لغسيل السيارات ،يستعمل مولدة كهربائية قديمة يشبه صوتها مرور جرافة لساعات طويلة …عداك عن تراكم القمامة التي تتخمر لأيام فتفوح برائحة العفونة ..وهناك محل آخر لتجارة مواد البناء ..وقد وضعت مواد البناء على الرصيف والحديقة الصغيرة ..ولم يكتف صاحب المحل بإغلاق الرصيف ..بل حين تهب الرياح يتحول المكان إلى ضباب من الرمال والغبار…
يا ترى من هو المسؤول الذي يجب أن نتوجه بالشكوى إليه ؟! فقد قدمنا شكوى ..وعدة شكاوى لجهات مختلفة ،ولم نتوصل لحل .. ،فرفعنا رؤوسنا نشكو للخالق ما يحدث في حينا ..ترى من سمح لهؤلاء باستثمار وإشغال الأرصفة والشوارع والحدائق ..وكل مكان ؟! وهل هذه المظاهر هي مظاهر حضارية ؟! وهل ما يحدث من ضجيج وغبار وتعدً على الحقوق هي مظاهر إنسانية ؟!
لا أعرف إن كانت تلك الفتاة على قيد الحياة لتشاهد ما ذكرته .
د.نصر مشعل