عام 1964 كنتُ في دمشق، وكنتُ أرتاد مقهى ” الهافانا” قبل أن يصبح مقهى للأدباء والفنّانين، وكان يرتاده عدد من المفكّرين، والأدباء، والسياسيّين، ومن أبرزهم الفيلسوف العربي المرحوم زكي الأرسوزي الذي كنّا نتحلّق حوله، لنستمع إلى آرائه، وتحليلاته، وأفكاره.
كان يرتاد ذلك المقهى بشكل يوميّ رجلٌ فارع الطّول، معتدل القامة، جميل الوجه، يرتدي باستمرار ( طقّماً) أسود اللّون، ويضع ” بابيون” بشكل دائم، ويعلّق بإحدى يديه عكّازه، وله لحية ” سكسوكة”، ويجلس فيُرسل خلفه الزبائن، فسألتُ ما ذا يفعل هذا الرجل مع الزبائن، فقالوا إنّه يقرأ الكفّ، وباعتبار أنّ السّائد لدى المثقّفين ومحبّي الثقافة في ذلك الزمن هو الفلسفة الوجوديّة والماركسيّة، فقد كان ذلك يشكّل إحراجاً أن تستدعي قارئ كفّ ليقرأ طالعك، علماً أنّ معرفة المستقبل أمر شغل بال الإنسان منذ أقدم العصور، ويبدو أنّ ذلك سيظلّ قائماً ما بقي الإنسان.
تحيّنتُ فرصة لم يكن فيها أحد من أصدقائي، كيلا أشعر بالحرج، وطلبتُ من النّادل أن يرسل لي هذا القارئ، فجاء وجلس بتهذيب لافت، وكان يفتح الورق: ورق ” الشدّة”، ويقرأ فنجان القهوة، ويقرأ الكفّ، وكلّ هذا بليرة سورية لا غير، حين نظر إلى كفّي ودقّق في تفاصيل يراها هو، كان ممّا قاله، بلكنة أرمنيّة مشوبة بالعربيّة المكسَّرة، أسوق المعنى، :” أنت لا تلتزم بالطقوس الدينية ولكنّ قلبك ممتلئ بالإيمان بالله ، أنت أجدادك صوفيّون”، وتابع:” أنا لو كان عندي دكّان، وجاء بك أبوك وقال ضع هذا الولد عندك، وعلّمه، فسأرفض”، قلت له مستفهما :” “ليش بقى”؟!!، قال:” لأني لو قلت لك خذ هذين الصندوقين وضعهما في السقيفة، فسوف تأخذ واحداً وتترك الآخر، ولكنْ لديك جَلَد كبير على القراءة”، وتابع:” أنت تنفع قاضياً لا محامياً”، وبعد هذه الجلسة نشأت بيننا علاقة ارتياح فصرتُ أجلس إليه، وسألتُه عن مسألة قراءة الكفّ، فأخرج من جيب ” جاكيته” كتابا سميكا بعض الشيء، مكتوبا باللغة الانكليزيّة، وأراني رسوماً لبعض الأكفّ، وقال:” هذا كفّ نابليون، وهذا كفّ فلان، وهذا لفلان، وعدّ عددا من المشاهير، وتابع:” إنّ الكثير الكثير ممّا يكون في النّفس يتجلّى في خطوط الكفّ، وبعضه يشير إلى ما سيقع، ونحن لانفعل شيئا إلاّ قراءة ما نراه، نحن لا نعلم الغيب ولكنّنا نقرأ ما نراه”…
هذا الرجل الأرمنيّ كان صديقاً للأديب المرحوم سليمان عوّاد، أحد روّاد قصيدة النّثر، ويبدو أنّ سليمان عرف شيئا من حياة هذا الرجل فنشر ذلك في ملحق جريدة الثورة، فكان مما قاله عنه إنّه كان رجل دين في الشمال السوريّ، وأظنّ أنّه ذكر أنّه كان في كنيسة من أعمال مدينة “الرقّة”، وأحب امرأة، فخلع ثوب الكهنوت، وغادر الكنيسة، ولم يتزوّجها، لأسباب لم تُذكَر في المقال، وقال عنه إنّه شاعر كبير يكتب الشعر باللغة الأرمنيّة، ونشر عددّا من القصائد التي قال إنّها له وكانت من أجمل ما يقرأه محبّ للأدب والشعر، وما أدري لماذا شكّك البعض فيما قاله المرحوم سليمان عوّاد،؟!! ولو كانت له غاية أخرى لَنسبه لنفسه،
ها قد تغيّرت الأزمنة، وجرتْ مياه كثيرة من تحت ذلك الجسر، وما زال النّاس يبحثون عمّن يكشف لهم عن غيْب الأيام القادمة، علماً أنّ الأكثريّة منهم يؤمنون بالمقولة ” لا يعلمُ الغيْبَ إلاّ اللّه”، .. جرت المياه، وتراكمت السنوات وما زال في الذاكرة ذلك الأرمنيّ الفارع الطول، الجميل الشكل يطلّ أحياناً عليّ من بعض نوافذ الذّاكرة…
عبد الكريم النّاعم