أتابع في هذه الزّاوية إجابة الصديق الذي سألني عمّا إذا كنتُ مُجدّاً في دراستي، كما أبدو مجِدّاً في كتاباتي..
…بعد ذلك الرسوب الذي ذكرْتُه تهيّأتُ للتقدّم للشهادة الثانويّة مرّة ثانية، وكان أن تغيّرت بعض المناهج، وأصبحت العلامة عشرين من عشرين، وكان ثمّة شيء اسمه الرياضيّات، ولا أذكر منه شيئاً الآن، رغم أنّ علامتي كانت فيه عشرين من عشرين، لا أذكر إلاّ أنّ هناك س وَ ع، وشيء اسمه تابع،
تُرى ما قيمة مثل هذه الدراسات التي لا يبقى شيء منها في الذّاكرة، تقدّمت في العام التالي ونلتُ الشهادة الثانويّة، وهذا شجّعني على أن أدرس ” أهليّة التعليم الابتدائي” لأنّها تمنحني زيادة ولو بسيطة في الراتب، وأنا الآن أب لخمسة أبناء، وما كنتُ أعرف ما يعرفه الكثير من الرجال من شؤون البيت، أحتفظ لنفسي بمبلغ بسيط يسدّ بعض حاجاتي في شراء الكتب والمجلاّت، وإنْ على ضيق، وأعطي سيّدة البيت ما تتصرّف به، وهذا دأبي حتى الآن، فليس لديّ جَلَد على الشراء والمفاصلة ومتابعة الشؤون التفصيليّة في الحياة اليوميّة،
في العام التالي ، وكان أخي خضر وابن عمّي عباس يدرسان في دار المعلّمين،..حصلتُ على ما يلزم من الكتب، وإذا كانت بعض الكتب تُحفظ، أو تُفهم بالمتابعة وبالتكرار وبالمُذاكرة، فما الحيلة في مادّة الرسم، وأنا حتى الآن لو أردتُ رسم خطّ مستقيم بالمسطرة فلا بدّ من ظهور اعوجاج فيه؟!!
هنا اسمحوا لي أن أستطرد قليلا، ففي المرحلة الاعداديّة كان أستاذنا في الرسم المرحوم صبحي شعيب الأب الروحي في حمص لهذا الفنّ، وأنا لا أجيد الرسم، ولذا كنتُ أعمد إلى تعطيل قدرات الآخرين من زملائي في الصف، فأستعير ممحاة ما، وما أن تصل إلى يدي حتى ألوكها وأحرم صاحبها منها، حتى وصلتُ لمرحلة لم يعد أحد يعيرني أيّة ممحاة، فشكوت ذلك للأستاذ صبحي رحمه الله، فنظر إليهم باستغراب، فصدر أكثر من صوت:” أستاذ هادا بْياكل محّايات”،
كيف أتمكّن من النجاح في مادّة الرسم لأهليّة التعليم الابتدائي؟ والرسم ضروري لمعلّم الابتدائي ولو بشكل تقريبي، فسمعت عن كرّاس يعلّم الرسم عن طريق الحروف الأبجديّة، فاشتريتُه واستفدتُ منه بعض الإفادة،
اسمحوا لي هنا باستطراد آخر يتعلّق بالرسم، فقد أصبحت فيما بعد من زوّار معارض الرسم التي تُعرض في المدينة، ولديّ عدد من الأصدقاء في حمص مشهورين بالرسم، ولكي أرمّم بعض نواقص فهم هذا الفنّ استعنتُ بالمرحوم معتصم دالاتي، الذي أقلع عن الرسم باكرا لأنّه كما قال لم يجد أنّه سيحقّق التميّز الذي يطمح إليه، وقلت له في أحد المعارض تعال أقرأ لك هذه اللوحة، وقرأت، فقال:” هذه قراءة أدبيّة ، وهي تختلف عن القراءة الفنيّة”، وقرأها قراءة فنيّة، فالتقطتُ أهمّ المفاتيح، وبذلك نجوت من أن يصيبني ما أصاب أحد المسؤولين الذي جاء لافتتاح معرض فنّي، وكانت أوّل لوحة طالعتْه للفنانة أسماء فيّومي فنظر إليها بامتعاض وقال:” مين هادا اللّي مشوّه صورة الوطن العربي بهالشكل” فردّ عليه فنّان تشكيلي يرافقه وقال:” هاي لوحة تجريدية ما هيّ للوطن العربي”، فعقّب بالعبوس ذاته:” وْشو ها التّجريد الْ مالو طعمة”؟!! وتابع جولته..
أذكر أنني سهرت ليالي حتى الصباح وأنا أحفظ ما جاء في منهاج شهادة أهليّة التعليم، وتقدّمت للفحص، ونجحت حتى في الرسم الذي لا أعرف كيف رسمته، وكان هناك فحص عملي بجانب النظري، وهو إلقاء درس بحضور لجنة مختصّة، وقد طُلب منّا في الرسم أن نرسم صورة طالب جالس في حديقة بيته جالس للمطالعة!! تعال فكّها، .. ونجحت في تلك الشهادة، وقد سُدّت الآفاق لما هو أبعد، فقد سجّل أحد أصدقائي في الجامعة الأمريكية في بيروت، وتخرّج بشهادة ليسانس في الأدب العربي بعد أربع سنوات، بينما لم أستطع التسجيل لأنّ التسجيل يحتاج لقرابة الخمسمائة ليرة في تلك الأيام، وتتبعه مصاريف الذهاب إلى بيروت، بما يستتبع ذلك، وما كنتُ قادرا على تأمين ذلك…
تلك قصتي يا صديقي مع الدراسة ، وأتمنى ألاّ يقتدي أحد بها…
عبد الكريم النّاعم