الصراع الفكري ، الثقافي ، بين أنصار القديم وأنصار الحداثة ، في الشعر على وجه الخصوص ، مستمر إلى ما شاء الله أن يستمر النقاش ، حتى لا نقول ” الجدال ” بين أنصار قصيدة العمود ، من جهة ، وقصيدة “: التفعيلة ” وما يسمى ” قصيدة النثر ” يظهر بين حين وآخر .
هذه المعركة الثقافية والأدبية ، بامتياز ، سلاحها المعرفة والأفكار ، وتمتد جذورها إلى أربعينيات القرن الماضي ، عندما بدأ ظهور ما يسمى ” الشعر الحر ” أو ” قصيدة النثر ” ، وتزعمت هذه الموجة الشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة ….!!
وإذا كانت باعتراف النقاد والمثقفين قصيدة التفعيلة ابنة شرعية لقصيدة العمود ( الذهبي ) العربية كونها تعتمد التفعيلة والقافية ولو بشكل مغاير لقصيدة العمود فإن ( الشعر الحر ) كان منجزاً لا هوية له ولا أصل ..!! فهو وبتسمية البعض – قصيدة النثر – لا وزن له ولا قافية ، بل كلام نثري فني يعتمد التكثيف اللغوي والصور والإدهاش ..! وبلغت المعركة الثقافية هذه أوجها في خمسينيات القرن الماضي عندما اتهم – ولا تزال التهمة قائمة – أنصار القصيدة العربية العمودية كُتاب / قصيدة النثر / أو / الشعر الحر / بتخريب الذائقة الشعرية العربية والاعتداء على التراث ..
وهو أيضاً اعتداء على ” الشكل الأسمى ” الذي هو شكل القصيدة العمودية الأصيلة ..!! وتعبير ” الشكل الأسمى ” يعود للشاعر الراحل الدكتور أحمد سليمان الأحمد – شقيق الشاعر بدوي الجبل .
مصطلح ” الشعر الحر ” هو الشعر الذي كتبه شكسبير في مسرحياته ويعتمد على تفعيلة واحدة في كل القصيدة دون أي اعتبار للقافية . أما الشعر الحر عندنا فلا وزن ولا قافية له ..!!
وبعيداً عن الأفكار التي يتسلح بها الفريقان – المدافعان عن قصيدة العمود والمدافعون عن / قصيدة النثر / فإن أسماء عديدة ظهرت ترفع يافطة / قصيدة النثر / ومنها ، محمد الماغوط وسليمان عواد , وغيرهما من مصر ولبنان ..!!ووصل الأمر بالفريق الأول المدافع عن التراث إلى الاعتراض على الاسم فبدلاً من ” قصيدة النثر ” لماذا لا يقال ” النثر الفني ” والنثر فن جميل لكنه ليس شعراً…!! ويرد أنصار الفريق الثاني “أنصار الحداثة “- كما يسمونهم – بالقول: إن الكاتب له حق بتسمية ما يكتب ، كالأب الذي له حق إطلاق الاسم الذي يريده على ابنه …!!
لعلنا نذكر أن ” جدالاً” كهذا حصل في حمص ، وأثرى المشهد الثقافي في بداية تسعينيات القرن الماضي، في أثناء إقامة المهرجان الشعري لرابطة الخريجين الجامعيين عام 1993 فبعد المهرجان ظهر مقال في صحيفة تشرين يقول عنوانه (حضر الشعراء وغاب الشعر ..!!) ويعيب على المهرجان مشاركة شعراء / قصيدة النثر / , وانبرى عدد من الشعراء بالرد على المقال وهو مزيل باسم مستعار …!! وانقسم الشعراء والمثقفون الحمصيون إلى فريقين الأول يقوده الشاعر د.أحمد أسعد الحارة ويرى أن قصيدة النثر بلا هوية ولا أصل … ولن يكتب لها البقاء ، ويتحدى أن يستطيع أحد ما أن يحفظ غيباً قصيدة من قصائد ” النثر ” على العكس من قصائد العمود العربي … كقصائد امرئ القيس والمتنبي والبدوي وغيرهم ..!! أما الفريق الثاني المدافع عن / الحداثة الشعرية / فكان من ابرز شعرائه المرحوم الدكتور شاكر مطلق . ولعلنا نقول إن مكتب الشاعر أحمد أسعد الحارة ، في نادي ضباط حمص ، وكان مديراً له ، لثلاثين سنة ، كان منتدى ثقافياً يؤمه عدد من الشعراء والنقاد أمثال : عبد الرحيم الحصني وفاطمة بديوي وخالد الزهراوي وأحمد المعلم ووليد العرفي ورواد عودة وماجد النيساني وكاتب هذه السطور .. وغيرهم
أما عيادة الدكتور شاكر مطلق فكانت أيضا ملتقى لشعراء الحداثة أمثال مصطفى خضر وممدوح السكاف وغيرهم .
ولعل المقال الذي ظهر في صحيفة تشرين رداً على مقال /حضر الشعراء وغاب الشعر / وكان بقلم الشاعر عبد الكريم الناعم ، هو القول الفصل والمنصف في هذه المسألة, وأذكر أنه قال إن مقتل قصيدة العمود هو الرتابة والتكرار وهذا ” نظم ” وليس شعراً.. ومقتل قصيدة النثر السطحية والغموض ، ويبقى الجمال موجوداً في قصائد عمودية وفي قصائد نثرية وليعذرني الشاعر الكبير عبد الكريم الناعم لأن هذا كل ما أذكره من مقاله الذي نشر عام 1993 في صحيفة تشرين .. وللحديث بقية …
عيسى إسماعيل