أنيس النقّاش هو الحضور المدويّ للفكر الوقاد الذي يوازي الانفتاح والاستحضار الخلاّق للفكر السّياسّي والتّاريخي والفيزيائي في مضمار الحق .
هو تلّك الطلّة المهيبة على الشّاشات التّلفزيونية والمتابعة الحثيثة لكل مفردة ترتب موقعها في انسكاب منسجم للأفكار وتراتبية منقطعة النظير للتحليل المنطقي والمدروس .
سأناقش حضوره من وجهتيّ نظر وحيدتين الأولى .. أنّ الإنسان وبهذا العمر قادر على العطاء بعمر على أبواب الثمانين ظهر كأنّه عمر الحكمة والانتماء الرّوحي و العقلي لمنظومة البحث الممنهج والفكر الوقاد والجهد الذي يتلو الخير والحق الذي لن يموت ووراءه مطالب فكم من قدرات رهيبة يملكها الإنسان وبأيّ عمر كان حتى على مشارف الثمانين وأكثر يبقى رمزا للعمل والاستمرار والعطاء ، بيد الإنسان وحده القدرة على تنمية شخصيته بدلاً من أن ينتظر النهاية وهو على قارعة المرض وأسرّة المستشفيات وانتظار الموت وعدم المقدرة على العمل .
لقد تم برمجة الإنسان العربي على أن يوم تقاعده عن العمل هو انتهاء مدة صلاحيته و أنّ مقدرتنا تنتهي بعمر محدد على العكس تماما إن الإنسان قادرٌ على العطاء في كلّ زمان ومكان وكم هناك من علماء بعد الستين أنقذوا العالم بفكرهم أو قراراتهم الحكيمة لذلك نقول أنّ المقدرة البشرية لاتقف عند عمر محدد أو تموت مادام الإنسان قادر على أن يعمل ولا يستسلم لما تمّت برمجته عليه ويعرف أنّ قرار العطاء متوقف عليه ..هو وحده وما تجود به كنوزه وما يرتل في دمه من حياة وبما أنّه ” أحبكم لله أنفعكم لعباده ” كان لزاما على الإنسان أنّ يهتم بالفكرة التي تحافظ على محبة الناس له والتي تكمن بمقدار ما يعطي من كنوزه الداخلية مهما كانت على شكل ديناميكي أو فكري متحد مع النوستالجيا الروحية التي ترافق الإنسان وتزيح أو ترسّخ ما يحمل من تراكمات سواء سلبية أو إيجابية .
هذا الغوص بحقيقة المقدرة البشرية وتحويلها إلى نور بدلاً من أن تكون عبء على الكون يكون فقط في فكر الإنسان ومدى قدرته على تلقي الخير وطرحه بشكل أو بآخر ومدى اجتهاده أن يمضي بما حمل من أمانة جسديّة وفكريّة فإنه سيسأل عن جسده بما أفناه وعلمه ماذا عمل به , هل نستطيع أن نكون بقدر الامتحان ونؤدي رسالتنا على أكمل وجه أم أنّه لزاما علينا أن نكون في أرذل العمر منبوذين لا نافعين . وداعاً للموسوعة الفكرية المتحركة …بما علمتنا أنّ الإنسان لا ينتهي عند عمر معين ولا يستطيع أحد أن يرسم له طريقه … هو فقط من يقرر أن يسلك طريق النفع والعمل بحسب طاقاتها لا طريق انتظار الموت أو الموت قاعدا ” مت قاعد ” أي انتهت الصلاحية . ووجهة النظر الأخرى هي أنّه كيف لتلك القامة الممتدة عبر العلم والمعرفة والانتماء المجيد للكتب التّاريخية والديناميكية وغيرها أن تكون قابلة للرحيل وهل تمدّ المعرفة من عمر الإنسان أو تتقن في تحويله إلى أخلاق حقيقيّة.. تبوح بكلّ ما تعلمت وتنير عتمة ظلام الآخرين وتهدهد عقولهم وتمرّن ماتُرك في مفرداتهم من علمِ محدود كيف لتلك الشخصية التي تلوّن الشّاشات بحضورها ولا تستطيع أنّ تلوّن الحضور بالاستمرار … وداعاً للفكر الذي نجونا فيه وكان لزاما علينا أن نتبعه وداعا للأمل الذي يسندنا في أوقات الفراغ الداخلي لمنظومة الوجع الصعب بعد افتراس الحروب لأرواحنا وداعاً لعظمةٍ لا نستحقها ربما لأننا لا نعمل بها ولم ننتبه لها فانتهت رسالتها وصار لزاما علينا أنّ نطبّق تلك الصرخة المدوية التي استطاع إيصالها هذا المفكر في عصرنا. أنيس النقاش الذي أنار لنا أفكار حتى بعد رحيله .. الرحيل الذي جعل الكلمة تشهقُ من البكاء والذكاء الذي يقتسم التواضع واليقظة أصيب بخيبة أمل ..!! برحيله داهمتنا العتمة على حين غرّة وجع مدوّي في أعماقنا ونحن نودع قنديلا كان يُضيء عتمتنا .. لكنه لن يموت إنّه هناك معلّق في الذاكرة .
عفاف خليل