في هذا الكلام ( بعض) التوثيق، لما كانت عليه هذه المدينة التي خرج منها الدواعش مدحورين ببطولة كلّ مَن قاتل، ومَن آزر، ومَن صمد،
الصورة التي سأنقلها ظلّ بعضها قائما حتى سبعينيات القرن الماضي، وسأبدأ من حدود ساحة الساعة القديمة، فإلى الجهة الشرقيّة منها، لا يفصلها إلاّ تلك الفسحة بين سوق ” الفيصل” المُزال، كان ثمّة مقهى في الطّابق الثاني، يطلّ على الساحة، بواجهة بلّور، وكان يُسمّى القهوة العالية وفي الجهة الشماليّة من السّاعة القديمة، حيث تقوم الآن ساحة ” السنتر” كان ثمّة مقهى يسمّى مقهى الدروبي، وبجانبه كاراج لسفر السيارات التاكسي، وفوقه تقع صالة سينما ” الفردوس”، وغربي هذا المقهى، بفاصل عرض الشارع، وعلى الزّاوية يقوم مقهى” السقّاية”، فإذا تحرّكنا غربا في شارع القوتلي، كان مقهى ” الهلال”، والذي تحوّل فيما بعد إلى عدد من المحالّ التّجارية، وعلى الجهة المقابلة، غرب مُتحف حمص الوطني، والذي كان مبنى للبلديّة، ينتصب مقهى “الرّوضة” العريق، بقسميه الشتوي والصيفي، وفي الشتوي مسرح مبنيّ على الطريقة الإيطالية، غنّى فيه محمد عبد الوهاب في ثلاثينيات القرن الماضي، كما في ذاكرتي القرائية، التي أرجو ألاّ تخذلني، وإلى الغرب من مقهى الروضة، بفاصل عرض شارع، ينتصب مقهى ” الفرح” الذي مازال قائما حتى الآن، وفوقه مائلا قليلا عنه نحو الشرق كان مقهى، صار ناديا في فترة من الفترات بنقابة معلمي حمص، وإلى الجهة الشرقيّة من مبنى السّرايا كان يقوم مقهى ” فريال” والذي كان يضمّ بشكل يوميّ تقريبا مجموعة من أدباء حمص في ذلك الزمن كالناقد روحي الفيصل، والشاعر رفيق الفاخوري” وآخرين، وكان حتى منتصف خمسينيات القرن الماضي إلى الشرق من ” فريال” مقهى من أجمل مقاهي حمص، هو مقهى ” منظر الجميل”، والذي أزيل وقامت مكانه أبنية طابقيّة، تحوّلت إلى مكاتب، فإذا وصلْنا إلى أوّل شارع ” الدّبلان” من الجهة الشرقيّة يطالعنا مقهى” الجرّاش” وقد أزيل فيما أزيل، فإذا عبرتَ شارح ” الدّبلان” وانحرفتَ قليلا نحو اليمين شاهدتَ مقهى من أجمل المقاهي في انفتاحه على الجهات الأربع، وجدرانه ” بلّور”، وتمرّ من أمامه ساقية كانت تذهب شرقاً حتى الجامع الكبير، أمّا قرب حيّ بني السباعي فقد كان ثمّة مقهى يُسمّى ” قهوة الحَمام”، وإليه يجيء مربّو الحمام، والخبراء بأنواع هذا الطير، ومنهم المسرحي، والممثّل، والأديب المرحوم ” مراد السباعي”، وكان خبيرا بأنواع الحَمام،
في الأحياء البعيدة نسبيّاً آنذاك عن منتصف المدينة، والذي لم يكن يبعد عن أبعد حيّ أكثر من مسير ربع ساعة، … في هذه الأحياء قامت بعض المقاهي، كمقهى”الحميديّة، ومقهى ” باب التركمان”، ومقهى ” باب السباع”، وكان ثمّة مقهى في “باب الدريب”، ووُجدت مقاه عمّرت عدة سنوات ثمّ اختفت، من كلّ هذه المقاهي لم يبق الآن إلاّ مقهى الروضة، ومقهى ” الفرح”،
لعلّ مَن يتساءل ما سرّ كثرة هذه المقاهي، هنا لابدّ من تذكّر أنّه لم يكن التلفزيون معروفا، إلاّ كتكهّنات سوف تكون، ولذا كانت المقاهي المكان الذي يلتقي فيه الرّجال، فيسمرون، ويلعبون الورق ” الشدّة”، والنّرد ، والضاما، والدومينو، ويشربون الشاي، والقهوة، والكاكاو، والزّهورات وفي الصيف بعض المشروبات الباردة، ويتبادلون الأحاديث، فقد كانت المقاهي مسرحا لتناول جميع شؤون الحياة، من السّمر، وتزْجية الوقت، حتى عقْد الصفقات التجاريّة، ومع انتشار التلفزيون في أوائل ستّينيات القرن الماضي وجدت العائلات في بيتها ما يغنيها عن الذّهاب للسينما أو المقهى،
الآن حلّت ” الكافتيريات” محلّ المقاهي، لا سيّما في العشرين سنة الأخيرة، فها أنت ما تكاد تمرّ بحديقة أنشئت لتكون متنفّسا للنّاس وإذ بنصفها، أو قسم منها قد تحوّل إلى كافتيريا باسم الاستثمار، حتى لكأنّ الاستثمار، المال، أهمّ من حاجة المواطن لمكان يروّح عن نفسه به من ضيق بيته، وشارعه، وهذه عقليّة خطيرة، لأنّ تحوّل بعض جهات النّفع العام، والمفترَض أنّه مجّاني،.. إلى تاجر..، أو مستثمر، سيفرض منطق لا همّ لهم إلاّ الرّبح، ولو على حساب المصلحة العامّة،
كنّا نجلس في المقهى حتى نملّ، وثمن المشروب لا يتجاوز خمسين قرشا، فكم من مئات اللّيرات سنحتاج الآن لو ذهبنا إلى تلك الكافتريات؟!!…
عبد الكريم النّاعم