أرجّح أن زمن ما سأرويه هو عام 1988، وكنتُ مدْعوّا لمهرجان “َجَرَش” الشهير في الأردنّ، وقد دُعيتُ إليه أربع أو خمس مرّات، متواليات، لم أعد أذكر العدد، وبظنّي أنّه حدث أمر ما، ليس هذا مجال ذكره، فأدّى إلى انقطاع تلك الدعوة، وكان يُدعى لهذا المهرجان شعراء، ونقّاد، من مختلف بقاع الوطن العربيّ، وكان الجميع يُنزَلون في فندق واحد، ممّا يهيّئ، في أوقات النّهار، لتشكّل حلقات متعدّدة، يكون فيها الحديث عن الفنّ، والأدب، والواقع العربي، أقول ” النّهار” لأنّ نشاطات هذا المهرجان كانت تبدأ مساء في مدينة” جَرَش” ، الواقعة في الجهة الشماليّة الغربيّة من عمّان، وتستمرّ حتى منتصف الليل تقريباً، فيُنقل الأدباء إليها بواسطة الحافلات، ولعلّني ذكرت شيئا من هذا في زوايا سابقة، وأنتم تعلمون أنّ للأدباء والمفكّرين ميولهم السياسيّة، هذا إن لم نقل ” انتماءاتهم” وهي متعدّدة، ويكون لها من الحضور بقدر ما يتناسب مع مقام الجلسة.
في تلك الأيام كانت الأجواء بين دمشق وبغداد مشحونة بالتوتّر، ولا سيّما بعد أن اعترف بعض قادة “الأخوان المسلمين” الذين فجّروا عدداً من الباصات بركّابها،.. اعترفوا بعد أن أُلقي القبض عليهم أنّهم تدرّبوا في العراق، وتلقّوا منه دعماً لوجستيّاً، وماليّاً، وهكذا كانت الصورة بين دمشق وبغداد، وكان ذلك محزناً، وفاجعاً على مستوى الإحساس بالشعور القوميّ النّظيف، وانعكس ذلك سلباً في العديد من أقطار العرب.
في ذلك العام، وأرجو ألاّ أكون قد أخطأت فيه، كانت تُقام بطولة كرة قدم على مستوى الوطن العربي، وأنتم تعلمون أن الهوى السياسي يصل حتى إلى تلك المساحات، وصادف أنّ تتويج البطولة كان بين دمشق وبغداد، وفي المباراة الأخيرة، تعلّقت أنظار جميع الأدباء بتلك المباراة، حتى لكأنّها تعبير عن انحياز لهذه الجهة أو تلك، وصادف أن تعادل الفريقان، وكان لابدّ من اللجوء لركلات التّرجيح، وكان حكم المباراة الرئيسيّ أردنيّا، وبين الأردن والعراق، في تلك الفترة علاقة متميّزة، فهي نافذة استيراد هامة، ولها تسهيلات بتروليّة عراقيّة، وفي إحدى الرّكلات الحاسمة، تمكّن اللاّعب السوري من تسجيل الهدف، ولكنّ الحكم ألغى ذلك متعلّلا بحجّة ما، وأعيدتْ الرّكلة وسجّل اللاّعب السوريّ، وعاد الحكم فألغى الهدف بحجّة أخرى، وكان الانحياز واضحاً فاقعاً، فهو لا يريد للعراق أن يخسر، وفي النهاية تمّ تتويج الفريق العراقي بالبطولة، ولم أشاهد أدباء يعكفون على مباراة رياضيّة كما شاهدت في تلك المباراة ، وكان حماسهم وتصفيقهم عالياً احتفاء بتلك النتيجة،
في اليوم الثاني سافرنا مسافة طويلة لزيارة ” البتراء”، تلك المدينة العجيبة، وكان في الحافلة عدد من المصريّين، وكانت كامب ديفيد، أمّ الكبائر السياسية، ما تزال ماثلة في الأذهان، وخلال الطريق أراد أحد الأخوة المصريّين مداعبتي فقال بلهجته المصريّة:” أهو غلبوكن العراقيين”، فأجبته على الفور بلهجته المصريّة:” ده حزب بيلعب مع بعضو، إنت علاقتكو إيه يا بتوع كامب ديفيد”؟!! وانفجرت الحافلة بالتصفيق والضحك، وكان المصريّون أكثر المستجيبين لذلك الحوار.
كان في الوفد المصري أستاذ جامعيّ، رزين، ومتقدّم في السنّ، وقد أنس كلانا بالآخر، فتجوّلنا معا في البتراء، ونشأت بيننا حالة من الاستلطاف والاحترام، وفي سياق ما تحادثنا به، عرّجنا على كامب ديفيد، فندّت مني كلمة جافية بحقّ ” السّادات”، فوقف بهدوء، ونظر إليّ نظرة فيها شيء من العتاب، وقال لي بلهجته المصريّة:” أستاذ عبد الكريم ما تنساش إنّو ده ريّس مصر”، وظاهرة دفاع (بعض) المصريّين عن رئيس بلدهم، أيّا كان، ظاهرة معروفة، حتى لكأنّك إنّ ذكرته بنواقصه الواضحة تكون قد خدشتَ شيئا في لوحة مصريّته…
عبد الكريم النّاعم