تحية الصباح .. من الذّاكرة 11

منذ ستّينات القرن الماضي، وحتى انهيار المنظومة الاشتراكيّة كانت تمرّ في بعض قصائد الشعراء مفردة ( القطار)، وربّما رغب البعض في أن ينتمي ذهنيّا إلى عالم القطارات، فالقطار رمز حضاريّ، ولعلّ الشاعر لم يركب قطارا في حياته، وهنا المُفارقة، أمّا بالنسبة لي فقد كان القطار جزءاً من طفولتي، ويفاعتي، وشبابي، فوالدي كان عاملا في شركة سكّة حديد سورية ولبنان، أظنّ أنّ اسمها كان هكذا، وأكثر من واحد من أقربائي كان من عمّال تلك الشركة، وكان صاحب الرّاتب محسودا، أو مغبوطا من محيطه، إذ لديه مايقبضه في نهاية كلّ شهر، بينما بقيّة أهل القرية لايعرفون إلاّ محصول البيدر، مرّة في العام.
كنّا نراقب القطار قادماّ من جهة الشمال أو من جهة الجنوب، ونذهب إلى المحطّة لتأمّل هذه الآلة العملاقة التي تجرّ خلفها كلّ هذه العربات.
صبيّة جيء بها من جرد المَلْزَق، لتتعرّف على أهل مَن سيكون زوجها في المستقبل، حين شاهدت القطار صرختْ كيف صاففْ متل صفوف البقر ، فسمعها مَن يُفترض أن يكون خطيبها فقال لأهله: لاتخطبوها، إذا سمعها أهل قريتنا ستكون حديث مسخرتهم واستهزائهم».
حين يصل القطار قادما من الجنوب ويصل إلى طلْعة «جورة حَمَد» يضطرّ للسير ببطء كنّا نتعلّق بالعربات، ونفرح بركوبنا، ونُغادره حين يكاد يتوقّف قبل المحطة بمسافة قريبة، فالقطار عندي حالّ في الذاكرة من زمن لايُنسى ، أو هكذا يبدو.
في محطّة حمص، بقيت لمدّة لم أعد أذكرها أنام على سرير خشبيّ، في مهجع يقع في وسط المحطّة، وأتساءل الآن كيف أمضيتُ هذه الفترة، فحركة العربات، والضجيج مايكاد ينقطع، أنا الذي حين أكون نائما الآن،.. أستيقظ حين يضع أحد يده على مقبض الباب!!
يوم نزح أهلي من تلك القرية، وكانت حمص مدينة ليست كالآن، فقد كانت محطّة قطار حمص تقع غربيّ المدينة، وكان القطار حين يأتي قادماً من أيّة جهة يبدأ سائقه بإطلاق صافرته منبّها ، ومحذّرا، فهو لايستطيع الوقوف كما تقف السيارة، وكان صوت صفير القطار يصل إلى المدينة كلّها ، وكلّما سمعتْه والدتي تُجهش بالبكاء حنينا للمكان الذي غادرناه شبه مُقتلعين، أيام سطوة الإقطاع.
حين كان والدي رحمه الله يأتي بنا، ونحن نركب القطار، لزيارة بيت عمّتي في حمص، كان أوّل مايطالعنا هذه القناديل الصفراء المعلّقة على أعمدة عالية، حتى لتبدو المدينة وكأنّ نجوما قد أُشعلتْ فيها، فما نكاد ننام من الفرح،.. في المدينة التي كانت تبدأ موسيقى صباحاتها بموسيقى وقع أقدام الخيل التي تجرّ العربات السوداء( الحنتور)، المخصّصة لتنقّل الناس، كالتكسي الآن.
ملاحظة قد تكون جديرة بالذكر، وهي أنّ قريتنا كانت تابعة إداريّا لمحافظة حماة، غير أنّ أهلها يفضّلون قضاء حوائجهم من حمص، فقد كانوا يشكون من شراسة اقطاعي حماة تجاه الفلاحين، ولم تكن حمص خالية من ذلك، ولكنّها كانت أرحم إلى حدّ ملحوظ…
عبد الكريم النّاعم

المزيد...
آخر الأخبار