في طفولتي البعيدة في الزّمن ، القريبة في الذاكرة ، تلك الحلاقات العجيبة التي كنّا نراها في رؤوس الأطفال خاصّة، فهناك حلاقة لاتترك أثرا للشعر في محيط الجمجمة كلّها إلاّ في قمّتها من الخلف، فهي تترك خصلة طويلة منسابة باتجاه الأسفل، وكانوا يسمّونها “ زَعْزوعة”، وهناك حلاقة أخرى تُزيل شعر الرأس بالموس عدا سماكة سنت واحد تقريبا تمتدّ من قمّة الجمجمة من الخلف، حتى الجبهة ، ويسمّونها “ تاسومة”،ربّما لأنّها تأخذ شكل “التّاسومة”، فيما بعد في المدينة تعرّفنا على الحلاقة الانكليزيّة، وهي تُبقي سماكة قليلة من الشعر في محيط الجمجمة، وتبلغ درجة الصّفر فيما يلي ذلك.
الذي أيقظ هذه الذاكرة مرّة أخرى هي أنواع الحلاقات التي نشاهدها الآن لدى شباب هذا الجيل، فنستغرب ذلك، ربّما لأنّنا لم نتعوّد عليه من قبل، وربّما لأنّ فيه تناقضا مع ذوقنا العام، ونحن لاحول لنا ولا قوّة، لأنّها ( موضة) العصر، الوافدة إلينا من بلاد الغرب، الغرب الذي لايكتفي بتصدير معظم مانحتاج إليه، بل هو يصدّر لنا حتى قصّات الشعر، ونحن وسوانا مجرّد مستجيبين، ولقد شاهدنا على شاشات التلفزيون أنّ هذه الموضات قد غزت حتى بلاد الصين،التي بدأ اقتصادها يُزاحم الاقتصادات الكبرى في العالم، ورغم ذلك فهي تستسلم لهذه الموجة، حتى أنّنا شاهدنا من أهل الصين، واليابان وتلك البقاع مَن يصبغ شعر رأسه باللّون الأشقر ليتشبّه بأبناء الغرب، لكأنّ ثمّة عقدة خفيّة في النفوس في تقليد الغرب النّهّاب الامبريالي، والغرب يدرس كلّ موضة من الناحية النفسيّة والاقتصاديّة، فما تكاد تستقرّ حالة ما حتى يُبدّلها، ليس حبّا في التبديل بل جشعا لمزيد من الأموال التي تتكدّس في بيوتات المال الغربيّة.
قبل أكثر من أربعين سنة التقيت في صالة “ الفنون” بشاب تربطني به قرابة، وفوجئت بالطريقة التي رأيت شعر رأسه فيها، فبعضه واقف نحو الأعلى، وبعضه يميل جانبا، وبعضه يكاد يقف كشعر القنفذ، وبعد السلام، وقد ظننتُ أنّه نسي أن يسرّح شعره،.. قلت له :« ياخال، كأنّك نسيت أن تمشّط شعرك»؟ فقال واثقا ومُطمئناً:” لا ، خالي ، أنا أتركه على حاله، أستيقظ من النّوم فأدعه كما هو”، فشعرت بما يُشبه الصّدمة، فقلت له :«لاتؤاخذني» ، ومشيت.
في أحد مطارات أوروبا، قبل خمس سنوات شاهدت، والفصل شتاء، شابا يرتدي كنزة نصف كمّ تبرز منها عضلات يده، وقد حلق بالموس جميع شعر رأسه، وأبقى فيه شعرات طويلة، سرّحها إلى الأعلى، وأحكم تثبيتها، ولوّنها بألوان متعدّدة، تمتدّ من جبهته حتى منتصف نقرته، على شكل الخوذات الرومانيّة، ويسير ولا أحد يلتفت إليه، وتساءلت : هذا حين ينام كيف يتعامل مع هذه الخوذة التي كلّفتْه الكثير من الجهد، والألوان ، والتثبيت؟!!
أبناؤنا الأعزّاء اختاروا القَصّة التي تُعجبكم، ولو على حساب مشاعرنا الجماليّة، وانحازوا جميعا إلى مايُرضي الوطن..
عبد الكريم النّاعم